الابتزاز الإداري

خليفة بن محمد الحامدي

لطالما كانت بيئة العمل الإيجابية هي الغاية المنشودة لأي موظف يطمح إلى تطوير مهاراته وقدراته، والمفتاح الناجح لأي مؤسسة تسعى للبناء والتطوير والتحسين؛ إذ لا يتأتّى لأي مؤسسة أن تقوم بالمهام التي أُنشئت من أجلها دون تهيئة وإيجاد بيئة عمل، تتوافر فيها مقومات البناء والتحسين والابتكار، تمكّن موظفيها من أداء مهامهم، وإبراز قدراتهم المختلفة لوضع مؤسساتهم في دائرة المنافسة سواء كانت هذه المؤسسات عامة أو خاصة.

وقد تداولت الأدبيات النظرية الإدارية أهمية تحسين بيئة العمل بشكل موسّع، لما لها من دور رئيس في تحسين كفاءة الإنتاج وتجويد المخرجات بالنسبة للمؤسسات، ورفعة ورفاهية المجتمعات، ويبدو لي أن تحسين بيئة العمل لأي مؤسسة ينبغي أن يقف على ثلاثة خطوط رئيسية وهي كالآتي:

  1. أهمية وضوح رؤية المؤسسة ورسالتها وأهدافها للموظفين مع ضرورة ضمان قدرة الإدارة على جعل الموظفين على مستوى عالٍ لتبنّي سياسة المؤسسة وأهدافها والعمل بمقتضى رسالتها وقيمها.
  2. التزام الإدارة بمبادئ الحوكمة الرشيدة في الممارسة الإدارية، من خلال تعزيز المشاركة والشفافية والعدالة وسيادة القانون والمساواة، باعتباره أحدث مصطلح إداري لإحكام عمل المؤسسات العامة والخاصة.
  3. تعزيز الجوانب الإنسانية والاجتماعية في بيئة العمل من خلال الأنشطة الاجتماعية والإنسانية عبر مختلف الأدوات والوسائل داخل وخارج المؤسسة، إذ تعّد المهارات الإنسانية أحد أبرز الأوراق الرابحة لتحقيق الميزة التنافسية لدى المؤسسات في الوقت الراهن.

ويمكن أن تندرج تحت هذه النقاط مختلف التفريعات والوسائل التي تضمن إيجاد بيئة عمل مناسبة للموظف في القطاع العام، يتمتع من خلالها الموظف باستشعار دوره الحقيقي في المؤسسة مما يدفعه لبذل قصارى جهده في سبيل تحقيق أهداف مؤسسته.

غير أنَّ هذه النقاط- التي أشرنا إليها أعلاه- تواجه تحديات كثيرة لتطبيقها، بعضها يعود للمؤسسة نفسها، كعدم وجود رؤية تطويرية للقيادات في المؤسسة، واعتماد المؤسسة على سياسات كلاسيكية تعزز من تكريس هالة التسلسل الهرمي الذي عادة ما يتفرد باتخاذ القرارات دون وجود مرحلة صنع القرار أو مشاركة حقيقية مع باقي الشركاء في المؤسسة، فضلاً عن تلويحه الدائم بالعقاب، وافتراض أن الموظف سيئ ما لم يثبت العكس، وتبنّي أنماط إدارية غير متفاعلة مع المتغيرات والتحولات الإدارية الحديثة، والبعض الآخر تعترضه المنظومة الإدارية بشكل عام تتمثل في جمود التشريعات وعدم مواكبتها للتحديات المتجددة وبنية النظام الإداري القائم على البيروقراطية، وعدم وجود ممارسات إدارية ناجحة محليًا تم تسليط الضوء عليها وتقديمها كأنموذج ينبغي الاهتداء به.

وبقاء هذه التحديات دون مُعالجة جذرية مؤذن بقيام إشكالات بعضها بات ظاهرًا للجميع كانعدام الولاء المؤسسي وعدم الالتزام بواجبات الوظيفة العامة وتأخر إنجاز المعاملات، والضمور في مستوى أخلاقيات العمل بين الأفراد في المؤسسة الواحدة، والبعض الآخر من هذه الإشكالات خفي وخطره أشد جسامة من النوع الأول وحديثي هنا عن الابتزاز الإداري.

ويُعد مصطلح الابتزاز الإداري من المصطلحات الحديثة التي لم تحظ بدراسات وبحوث متخصصة موسعة- على حد علمي- وفقاً لما اطلعت عليه، مقارنة بأنواع الابتزاز الأخرى التي لقيت حظاً واسعاً من الاهتمام عبر مختلف الوسائل والمناشط والمنصات؛ بل وحتى التشريعات.

ولعلَّ من أبرز أسباب عدم وجود حظ للحديث عن الابتزاز الإداري كونه خفيّا وغير ظاهر بصورة مباشرة لأفراد المجتمع، لانحساره على المجتمع الوظيفي في المؤسسة، كما إنه قد يكون غير ظاهر أيضًا للموظفين في ذات المؤسسة، إلَّا أنَّ آثاره السلبية تتعدى المؤسسة لتلحق ضررًا جسيمًا بالمجتمع والدولة.

ومصطلح الابتزاز الإداري يرتبط بالأنواع الأخرى من الابتزاز في وجود طرفين أحدهما مبتز والآخر ضحية، ووجود ثمن لهذا الابتزاز- أيًا كان نوعه- مع اقتصار الضرر على الضحية في كثير من الأحيان للأنواع الأخرى، بعكس الابتزاز الإداري؛ حيث إن الثمن المترتب على هذا السلوك قد تدفعه مؤسسات الدولة بأكملها أو القطاع الخدمي بأكمله؛ بل قد يدفع الثمن جيلٌ كاملٌ من أبناء الوطن.

وكاجتهاد ومحاولة شخصية، نرجو أن تكون موفقة، نحاول تعريف الابتزاز الإداري بأنه إحدى وسائل استجرار المنافع المادية والمعنوية في المجتمع الوظيفي عن طريق الإكراه أو التلويح بإلحاق الضرر أو تعطيل المصالح المتعلقة بالغير.

ووفقا لهذا التعريف فإن وسائل الابتزاز الإداري في تقديري لا تخرج عن ثلاث حالات:

  1. الإكراه.
  2. التلويح اللفظي أو المعنوي المباشر وغير المباشر بإلحاق الضرر بالغير.
  3. تعطيل المصالح المتعلقة بالغير.

وتحت هذه الحالات الثلاث بالإمكان وضع مختلف الوسائل والطرق والآليات من صور الابتزاز الإداري بين موظفي الوحدات الحكومية أو الخاصة، فقد يكون المبتز موظفا والضحية مسؤولا وقد يكون العكس، وقد يكون بين المسؤول لحكومي ومتلقي الخدمة " المواطن" وقد يكون الابتزاز على صورة تبادل منافع بين رؤساء وحدات تنظيمية على مختلف مستوياتهم الوظيفية بل قد يكون بين الموظف المعني بالتدقيق والرقابة وبين الموظف التنفيذي، وينتج عن هذا كله الآتي:

  1. تمكين غير المؤهلين من تولي المناصب الوظيفية وهذا الأمر يعد جريمة في حق الوطن والمواطن، وخيانة للأمانة؛ لا سيما إذا كانت الوظيفة تتصل بصحة الناس أو قضاء حوائجهم أو الفصل في النزاعات بينهم أو تعليمهم المدرسي والجامعي أو حمايتهم من الأعداء، أو الحفاظ على أمنهم وسلمهم المجتمعي، ولنا أن نتخيل حجم الضرر الذي سيلحق بقطاعات الدولة وأفراد المجتمع في مواجهة هذا الشبح الذي نرى آثاره فقط دون أن تظهر لنا أسبابه للوقوف عليها ومعالجتها.
  2. إرساء المناقصات لشركات المتنفذين لتبادل المصالح فيما بينهم دون وجود مخالفة قانونية ظاهرة وحضور خفي كالعادة للابتزاز الإداري لتأثير سلطة المسؤول الأعلى، الأمر الذي قد نجد من خلاله إرساء مناقصات بملايين الريالات لبناء مرافق معينة لخدمة المجتمع دون أن يكون فيها الحد الأدنى من متطلبات استكمال المشروع، مع بقاء سيف الرقيب مسلطا على الموظفين التنفيذين ومنحنيا أمام هالة المسؤول الأعلى لامتلاكه السلاح الخفي "الابتزاز الإداري".
  3. طمس الكفاءات الحقيقية في المؤسسات وعدم استثمارها الاستثمار الأمثل باعتبارها تمثل القيمة الحقيقية للمؤسسة والأنموذج الحي الذي ينبغي للمؤسسة أن تجعله مصباح هداية للموظفين، فيبرز عن هذا كله الاحتراق الوظيفي والخلل في الدوران الوظيفي بالمؤسسات، وفقدان الثقة بين الموظفين والقيادات داخل المؤسسة الواحدة.
  4. تسمم بيئة العمل بجو مليء بالسلبية والتذمر والتدني في حضور أخلاقيات العمل في الممارسات الوظيفية للموظفين، وافتراض الصحة في أي خبر أو إشاعة سلبية عن أي مسؤول في أي قطاع مهما كان موقعه، واعتبار ذلك صحيحا مالم يثبت العكس.

إن وجود مثل هذه الإفرازات نتيجة الابتزاز الإداري في أي مجتمع وظيفي كفيل بأن يهد أركان أي مؤسسة، ويهدد الأمن القومي لأي بلد على المدى المتوسط، ويعد مؤشرا خطيرا يعبّر عن هشاشة داخلية حادة مهما كان البناء الخارجي للمؤسسة حديثا وصلبا، وهو أمر لا نرجوه لمؤسساتنا الأمر الذي نعتقد من خلاله بأن الحاجة أصبحت ملحة للحد من هذه الممارسات عن طريق مجموعة من المعالجات التي نقترح أن ينظر إليها بعين الاعتبار؛ وهي كالآتي:

  1. ضرورة تحديث التشريعات والقوانين بما يتواءم مع حجم التحديات المستجدة في كل قطاع، وبما يضمن وجود خطوط واضحة وشفافة للمساءلة والمحاسبة للمسؤول الحكومي مهما علت رتبته في أي قطاع.
  2. أصبحت حوكمة العمليات الإدارية والمالية في المؤسسات الحكومية ضرورة حتمية، تفرضها المتغيرات المتسارعة؛ فلا وجود لبناء متين وتنمية مستدامة بدون عدالة ومساواة وشفافية ومساءلة وسيادة للقانون على الجميع.
  3. من الجيد أن تتبنى الأكاديمية السلطانية للإدارة مبادرات لتعزيز دور القيادات في المؤسسات الحكومية إذ أن القيادات هي التي يعول عليها التأثير وإحداث التغيير في المؤسسات، لا سيما ما يتصل بتعزيز جوانب التخطيط الاستراتيجي والتفكير الناقد وإدارة التغيير، والتواصل الفعال، وأخلاقيات العمل.
  4. إخضاع كافة الموظفين بمختلف مستوياتهم لدورات مكثفة في أخلاقيات العمل لا سيما الموظفون الجدد.
  5. نقل تبعية وحدات التدقيق الداخلي بمختلف المؤسسات الحكومية إلى جهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة.
  6. تخصيص جوائز سنوية حكومية للموظفين المجيدين والمؤسسات المجيدات يتم من خلاله إشراك الموظفين والمواطنين "متلقي الخدمات" في تقييم خدمات المؤسسات في حفل سنوي يتم من خلاله كشف أداء كافة الجهات الحكومية لتكريم المجيد، والوقوف على أسباب تدني مستوى بعض الجهات واقتراح معالجتها بما يتناسب مع كل حالة.
  7. إضافة بند أو برنامج مالي في موازنة المؤسسات يعنى بتعزيز الجانب الاجتماعي والإنساني في المؤسسة وتتولى دوائر الموارد البشرية وضع الخطط السنوية اللازمة لتنفيذ أهداف هذا البند أو البرنامج.
  8. تمكين دوائر الموارد البشرية من لعب دورها الحقيقي في المؤسسات الحكومية كالتخطيط والتنظيم ورسم المسار الوظيفي ومواءمة السياسات والخطط المؤسسية مع الطاقم البشري بالمؤسسة والحفاظ على مستوى أداء مرتفع، إذ لا تزال بعض المؤسسات تدار بثقافة إدارة الأفراد واختزال دور الموارد البشرية في تحديد الاحتياجات البشرية وتنفيذ سياسة المؤسسة على الموظفين.

تعليق عبر الفيس بوك