مهرجان جامعة صحار للمسرح.. الإدراك يسبق الطموح

أ.د. نضال الشمالي **

nidalshamali@gmail.com

هل مكّنت جهود المسرح الجامعيّ في سلطنة عّمان من تغيير النظرة الخجلى تجاهه؟ وهل إقامة المهرجانات المسرحيّة في الجامعات ضرب من الاحتفاليات العامة التي لا مهرب من إقامتها سدّاً لنشاطات دورية تملأ أجندة الأنشطة الطلابية، فيُنسي بعضها بعضًا؟ سؤالان أُسرع في الإجابة عنهما ابتداءً بإثبات الأول ونفي الثاني.

وقولي فيه تعدّد؛ إذ غدا المسرح الجامعي في بعض تجاربه الخلاقة منبراً يستقطب مواهب طلبة الجامعة ويعمل على صقلها، وإن اقتصر ذلك على تجارب محدودة تظهر من هنا وهناك، وهي تجارب لا تكفي لتغيير النظرة إلى المسرح على أنه وسيلة ترفيه وتمضية وقت، إلا إذا كان ما يُقدم نوعيّ ومقنع.

إن الجهود المنتظرة من عموم الجامعات هي صقل الذائقة والدفع نحو تقبّل فكرة المسرح على أنها حاجة ملحّة ترتقي بأذهاننا وأذواقنا وتطلعاتنا في سبيل التنمية الشاملة والارتقاء بالأوطان وتعزيز الوعي بقضايانا وحاجاتنا، وللمسرح دور تربويّ وإرشاديّ يسبق الدور الفنيّ الذي يظنه بعضنا مقتصراً على المتعة البصريّة العابرة.

فرغنا قبل أسابيع من متابعة مهرجان جامعة صحار للمسرح في دورته العاشرة المنعقد ما بين 27- 30 مارس، وقد اجتهد طلبة الجامعة في تقديم خلاصة إبداعاتهم، جاء ذلك بإشراف مباشر من دائرة الأنشطة الطلابية التي يديرها الدكتور سيف بن عبدالله الهنائي، فظهرت إلى النور أربعة عروض مسرحيّة مقنعة تستحق التأمل والنقد هي "زوجوه بيعقل"، و"المنعطف الأخير" و"أضداد"، "الطاهي" سبقها في اليوم الأول عرض مسرحيّ موازٍ عنوانه "عيون الخضر" قدمه طلبة جامعة التقنية والعلوم التطبيقية بصحار.

كما جاء المهرجان محاطاً بالعناية الرسميّة والأكاديميّة؛ حيث رعاه عبدالله بن صالح البريكي الأمين العام المساعد لمجلس الدولة سابقا، وتابعه متابعة حثيثة الدكتور حمدان الفزاري القائم بأعمال رئيس جامعة صحار. ومما يجدر ذكره حرص إدارة المهرجان على استقطاب لجان تحكيم متخصّصة لمتابعة العروض المسرحيّة ونقدها والخلوص إلى نتائج تعين الطلبة الموهوبين على تطوير أدائهم مستقبلاً. وقد ترأس لجنة التحكيم الفنان طالب محمد البلوشي رفقة لجنته الكريمة. فضلا عن حرص إدارة المهرجان على تكريم فنانين سابقين كالفنان العُماني سعود الخنجري، وهذا كله يصبّ في تعزيز التواصل بين أجيال المبدعين وتناقل الخبرات المثمر.

إنّ نجاح أي مهرجان مسرحيّ منوط بانتظامه، وهذا ما حققه مهرجان جامعة صحار للمسرح في وصوله إلى الدورة العاشرة، وهو رقم صعب يحتاج إلى جهد وإصرار انتظاماً وثباتاً، وهو ما يمثل العامل الأهم من عوامل تقدمه وارتقائه وديمومته، وإن ما نراه من عروض مسرحيّة على خشبة المسرح الجامعيّ ما هو إلا الثمرة التي سبقتها الكثير من الجهود الدؤوبة في استنهاضها وإخراجها على الهيئة المرجوة.

ومن متابعتي لجميع العروض المسرحيّة التي قُدمت على خشبة مسرح جامعة صحار بتنوعها المضمونيّ والفنيّ، وتباينها في المستوى أدركت أن المهرجان تجاوز فكرة الاحتفالية الدوريّة العابرة إلى إدراك وفهم وعمق ظهر في حالة من الإصرار على تقديم أعلى مستوى ممكن لممثلين هواة ما زالوا يتلقون تعليمهم الجامعي ويثابرون في إيجاد مكان لهم تحت شمس المسرح، ومن حقهم عليّ أن أقدم تقييمي الفنيّ لمرئياتيّ خلال أربعة أيام مزهرة بالتفاني.

لقد استهل المهرجان عروضه بعرضٍ مواز قدّمه نخبة من طلبة جامعة التقنية والعلوم التطبيقية بصحارعنوانه "عيون الخضر"، وقد جاء العمل تتنازعه ثنائيتان وجوديتان هما الموت والحياة، والأمل واليأس، مترجمة عبر لغة حوارية مكثفة ومدروسة تجبر الحضور على التأمل والوقوف أمام اسئلة كبيرة موجعة في عالم شديد التناقض تفوح منه رائحة الموت والوباء.

استهلت المسرحية وصلتها الأولى بإنشاد حزين شجيّ يخاطب النفس مباشرة ويحضّر الجمهور لأحداث مبهمة يمكن توقع بعضها، جاء الأداء متوازناً بين الحركيّ واللفظيّ، والعاميّ والفصيح، ومع أن الحوار تأخّر كثيراً عن شارة البداية، إلا أنّ الإنشاد الشجيّ عوّضه. أما قاموس الألفاظ للمسرحية فكان سوداوياً تتحكم فيه كلمات من قبيل: الموت، السقم، المرض، الحرب، الطغيان، مع تضييق للخيارات، وانتصار حتمي للموت والسواد.  

لم ينسجم عنوان المسرحية "عيون الخضر" تمامًا مع محتواها، ويحتاج إلى أكثر من خطوة ذهنية لإيجاد العلاقة اللازمة بين المحتوى والعنوان. أما الجوقة الموسيقة المصاحبة للمسرحيّة، فقد أكسبت المسرحية ثراءً ورمزيّةً بامتياز، وكان لها دور سينوغرافي مهم، فعلى سبيل المثال، حققت لعبة الأصوات الآتية من بعيد معاني إضافيّة للعمل تردّد صداها في دخيلة الحضور، رافقه انسجام بين ثنائية الحركة والسكون، وهي من الثنائيات التي يغفل عنها الكثير عند الأداء. وقد أعان البكاء والصراخ والعويل والضحك والصخب والترانيم على تنظيم حواريّة معقدة بين النصّ والأصوات المتأججة في ذات الإنسان المقهور.  

رُفدت المسرحية بنصوص صوتيّة توزعت بين الأغاني الشعبية وقصيدة "أعطني الناي وغني" لجبران خليل جبران. وهذا مكّن الحضور من الاقتناع بأن الأداء يتجاوز مساحة الكلام إلى التأمل، وكانت بعض الصوتيات الموظفة إنشادات غير عربيّة تشبه ترانيم الكاتدرائيات الحزينة مع إمكانية أن تعوّض مستقبلاً بترانيم صوفية عربيّة تحقيقا لفضاء الحزن المطلوب في المسرحية.  

أما العرض الثاني "زوجوه بيعقل"؛ فمسرحية تنتمي إلى الكوميديا الاجتماعية الساخرة الحاضنة لخطابين متصارعين يتموضعان في المكان نفسه، تشمل أربع شخصيات مختلفة النموذج، الآباء الغفلاء الملولين الضجرين من واقع أبنائهم، الذين يحسنون الشكوى ولا يحسنون التربية، يقابلهم أبناء مندفعون مستهترون بالحياة وشروطها غافلون عن اشتراطات المستقبل، وقد حرصت المسرحيّة على إبراز عقليتين مختلفتين لجيلين متعاقبين، ولاكن لا أحد ينجو من الإدانة آباء وأبناء.

انحكمت المسرحية لثيمة الفشل التي تسيطر على هذين الجيلين، خطاب الآباء التقليدي غير المؤثر، وخطاب الأبناء المستجد غير المثمر، وهذا الخطاب الخيّر يصنع نفسه بنفسه بعيدا عن قانون التوارث. لقد طرحت المسرحية مفهوم الزواج العبثيّ لدى الجيل الجديد وفقدانه للقيمة وضابية المستقبل. كما وظفت الأغنية الشعبية، وديكورا بسيطا جدا كاف بالكاد لإدراة الأحداث، أما الموسيقى التصويرية فكانت شبه غائبة.

ومن القضايا التي أفضت إليها المسرحية بروز الخطاب النسوي في نهايتها لمقاومة عبث الذكورة بمؤسسة الزواج، إلا أن الأحداث كانت متسارعة لا تتيح للمشاهد فرصة التأمل والمحاورة الذاتية للمواقف الدرامية. وقد أفلح الشاب العابث في تقمّص دور جيله المضطرب فنجح في تحريك الجمهور والتفاعل معه. بينما تسطّح سلوك الآباء في هذه المسرحية ونما سلوك الأبناء بتفاعلهم مع الأحداث، مع تركيز واضح على الديالوج أكثر من المونولوج الذي كانت تحتاجه شخصية الفتاة الضحية أحياناً.  

وجاء العرض الثالث بعنوان "المنعطف الأخير"، ويعد من أكثر العروض إقناعًا في مهرجان صحار للمسرح، وهو نص كتبه السيد إبراهيم، يوازن بين الأداء والديكور والموسيقى والأحداث والحوار، وقد اعتمدت المسرحية من ألفها إلى يائها على شخصيتين فقط اشتغلا على حوار راقٍ بالفصحى لكنه طويل ومرهق قلة من الفنانين يستطيعوا أداءه بالشكل الذي تمّ.

وخلال الحورايّة المعقدة والمركّبة التي نشأت بين الشخصيتين الرئيستين جرى تمرير العديد من القضايا والثنانئيات الضدية الخلاقة، كثنائية المال والحياة، والضوء والظلام، والحياة والموت، والاستخفاف والجدية، والغنى والفقر.

وتتحدث مسرحية "المنعطف الأخير" عن أحد الفقراء الذين اضطروا للسطو على بيت أحد الأغنياء للبحث عن دراهم تعينه على صعوبة الحياة، لكنه يفاجؤ بقدوم صاحب البيت، فيفتضح أمره، فلا يجد مناصاً إلا أن يتقمص دور ملك الموت، وهو تقمّص له ما له وعليه ما عليه. المهم أن الحيلة تنطلي ابتداء على شخصية الغني، ويقتنع بأنها النهاية. وقد كان هذا التحوّل إلى تقمص شخصية غيبية مفصلاً مهماً في العمل عزّز من قيمة الحوار الماراثوني بينهما، فتعرّت الكثير من الحقائق القاسية التي نعيشها في مجتمعنا؛ بل وفي نفوسنا الضعيفة، أطلّ أدب الاعتراف جليّا لدى الغني كاشفاً عن تشوهات خطيرة في نفس الإنسان. وفي المفصل ألأخير من المسرحيّة يُفتضح أمر اللص الفيلسوف فيعترف هو الآخر بما يعانيه.

ومما لفت انتباهي أن هذا النقاش لم يغيّر كثيرًا في سلوك الغنيّ مع أنه حاول أن يتصدق ببعض المال للص الفقير، لكن هذا الأخير رفض أن يأخذ المال لأنه مال مشبوه، وهنا تكمن المفارقة؛ إذ دخل هذه اللص قبل هنيهةٍ ليسرق من مال الغني، وإذا به يترفع عنه وعن ماله لتحوّل طارئ على نفسيته وقناعاته. ومما يؤخذ على هذه المسرحية عدم تناسب الموسيقى مع الأحداث، وحاجة الممثلين إلى تدريب على التلفظ الصحيح والمؤثر، إلا أنها تبقى من الأعمال المقنعة التي قدمت نمطا ثالثا من الصراع إلا وهو صراع الأفكار.

أما العرض الرابع فتمثّل في مسرحية "أضداد"، وهي المسرحيّة الفائزة بقرار لجنة التحكيم، وتستحق الإشادة نظير الجهد الاستثنائي المبذول من قبل الشخصيتين المتحاورتين في العمل؛ إذ تلخّصت المسرحيّة في مشهد واحد متكامل يجمع بين زوج يكتب الأدب ويؤمن بالشعارات ويقدر عاليا الظنون وينساق خلف الغيرة والأوهام، يعاقر الخمر ويعتد برأيه. تقابله زوجة ملتزمة تقدّس الحياة الزوجيّة وتتحمل ظنون زوجها وغيرته وأمراضه النفسيّة.

ينتمي الحوار الطويل الذي نشأ بين الزوجين إلى ما يسمى بالحوار السجاليّ لتضمنه كلامًا قاسيًا وشتائم متبادلة. أبدع بطل المسرحيّة في تمثل شخصية الرجل المتناقض، وعاش في فلكها وكان مقنعًا، واستطاعت الزوجة أن تبادله الحوار السجاليّ دفاعًا عن نفسها حيال ظنونه الفاسدة، فيحاصرها ويقيدها ويحرقها بأكوام من القش، بإلقاء المصباح الزيتي عليها، هذا المصباح الذي كان يهمّ الرجل بإصلاحه في بداية المسرحيّة يتحول من إداة إضاءة وتنوير إلى أداة إحراق وقتل. ترجمانا للثنائية التي نهضت عليها المسرحيّة وهي ثنائيّة الجنون والمنطق. كما جاءت لغة الحوار استعاريّة في مواطن كثيرة في المسرحيّة إلى حدّ المبالغة فيها، متضمنة الكثير من الشعارات، أما الديكور فكان أكثر مما يجب وكانت خشبة المسرح مزدحمة به.

أما ختام العروض فكان مع مسرحية "الطاهي" المكتظة بالكثير من الدلالات السياسيّة المهمّة والغامضة برمزيّة عالية ونضج كبير، وهي نص ينتصر للشعوب المسحوقة التي تئن تحت جبروت الظلم والقهر. وقد شكّل القهر كلمة محوريّة في هذه المسرحيّة المهمة. وقد بُنيت المسرحيّة على ثلاث شخصيات رئيسة هي الجد والحفيد والطاهية، وهذه الأخيرة جاءت طارئة عليهما لتتحكم بهما وتعاقبهما على أفعال لم يقترفوها، فمارست عليهم عقوبة الحداد والتجويع والسخرة، وهي أدوات صعبة أخضعت فيه الطاهية الشخصيتين الرئيسيتين أيما إخضاع.

أظهرت المسرحيّة توازنًا بين الديكور والأحداث والحوار، ولم تفلح الموسيقى في مواكبة أحداث المسرحية كما يجب. فعلى سبيل المثال تأخرت الموسيقى أكثر من اللازم في مطلع المسرحيّة دام الصمت طويلا قبل أن نسمع طرقات على باب المنزل. وكان من المقنع أن القهر والتجويع أن يحوّلا الشخصيتين الأخريين إلى كلبين ينبحان لترضى عنهما الطاهية الغاضبة والحزينة جراء موت كلبها. والمسرحية في ذذلك تُظهر تفاصيل خفيّة عن النفس البشريّة المقهورة التي لا تُمانع من التملّق والرياء في سبيل أن تتخلص من جور السلطة المستبدة، مظهرة قابلية الإنسان للقهر والانصياع في مواقف معينة. ومما يؤخذ على المسرحية عجزها عن إظهار علامات دالة على تعاقب الأيام مع أن بناءها كان بناء مواقيتيا يتخذ من عقوبة الأيام السبعة إطاراً للحبكة.

وبعد، فإن هذه التظاهرة الفنيّة كشفت بما لا يدع مجالا للشك في صدق النوايا والإدراك العميق لأهمية تبني المواهب الطلابية الشابة القادرة على التعبير عن خطاب جيلها بـتألق وإقناع، ولا بدّ من إقامة العروض الدوريّة على مسرح الجامعة خلال العام الجامعي لاكتشاف المواهب وتوجيهها،  وعقد الدورات المتخصصة على صعيد الكتابة والتمثيل والإخراج والسينوغرافيا، وانتداب المستحقين من الطلبة للاشتراك في المهرجانات المحلية والعربية، فأقصر طريق للطموح هو بناء صورة إدراكية لأهمية الإبداع في أذهان طلبتنا المبدعين.

** أستاذ السرديات والنقد الحديث بجامعة صحار

تعليق عبر الفيس بوك