أنيسة الهوتية
قَبل أذانِ الظُهرِ بِثُلثي الساعة كانت ترتفعُ أصواتُ الأمهاتِ والأطفال مُختلطةً بالفرحِ والحزن، فَرحًا لاقترابِ العيد وتشوقًا للبس الثوب الجديد، وحُزنًا على قُربِ انتهاءِ رَمضان والعابدون الخاشعون كانوا يطمعون منه في المزيد، ويقولون: ياريت لو كان الدهر كلهُ رمضان.
أما صوتي فقدَ كانَ يصدحُ بِحماسٍ وحِدةٍ في صِغري، فَقَد كنت أُرَدِدُ صُراخًا وراء المُعلمة حليمة بنت حمد الهوتية جدتي -رحمها الله تعالى- والتي كانت هي مُعلمة القرآن الكريم في حارة كُهبون بمطرح، وأنا أحسب العد التنازلي في كل يومٍ وَأتخيلُ ثياب العيد، والإكسسوارات، والضيوف، والعيدية، والحلوى، والأطفالِ الذين سيمرون ببيتنا وهم يلبسون أبهى ثيابهم وأنا كالعادة سأكون الولية على توزيع العيدية التي كانت 25بيسة، وأقف بالباب لاستقبالِ الأطفال، إلا الأقارب فَقَد كانوا يُعيدون أطفال بعضهم البعض بمئة بيسة أو مئتين! وَكنتُ أحسب في ذهني، بينما أنا أُرَدِدُ وراء جدتي وداعية رمضان: جدي منصور سيعيدني بِريالٍ "بالدِسية" كالعادة يكرمني أكثر من جميع إحفادهِ لأنني الأحبُ إلى قلبه، وأبي مئتين، جدتي مئتين، أمي مئة، عمي نورالدين مئتين أولًا، ثُم سيأخذني إلى سوق مطرح ويشتري لي لعبة، وخالي سبيل ثم خالي وليد-رحمه الله- يعني في النهاية سأمتلك تقريبًا ريالين "وشوية". وكُلما كنت أفكر بالريالين، وماذا سأشتري بها كنت أطير فرحًا وتُحلق روحي بين السماء والأرض وجسدي لازالت جالسة في مكانها تحت شجرة "النبق" تُرَدِدُ عاليًا:
الوداعَ الوداع الوداع يارمضان
وعَليكَ السلام شهر الحل والغفران
وَفي مدارِكِ تِلك الساحةِ غير الواسعة تحت شجرة "النبق" وسط مَجرى الوادي كانت تلك الساعة الزمنية مُمتلئةً بالبهجةِ والسرور والروحانيات، وطبعًا كان الوادي جافًا والمجرى بالعادةِ كانَ مُلعبًا للأطفالِ ومجلسًا للنساء باستثناءِ أيام الأمطار التي كانت الأجمل عندما يصحوا الوادي من جفافهِ وتمر بهِ مياه السيول وكأنها تغدق شايًا كركًا مُكرملًا كَما كُنَّا نقولُ في مزاحِنا، ويجتمعُ أهل الحارة كُلِهم عند "النوكاب" أي مصب الوادي الأساسي، ومنظره كان وكأنه شلالٌ جميل ينزل من قمة الجبل إلى مجراه في الحارة، وأحيانًا عندما تكون السيول كثيفة كانت الأضرارُ تتطال بعض البيوت المقاربة للوادي.
ومَع مرور الزمن، أصبحتُ أُرِدِدُ وراء جدتي، دون أن أفكر بالعيدية، والملابس، والهدايا، بل كانَ قلبي متعلقًا بجماليات القيام التي قضيتها مع جدتي في ليالي رمضان وفي يومٍ من الأيامٍ أجهشتُ بالبكاءِ وأنا أقرأ، فسألتني إحدى الجارات -رحمها الله- هل يوجعكِ شيء؟ لَم أعرف ماذا أقول، فوقفت ومشيت إلى حيث تجلس جدتي مُرورًا بأمي، وسألتها: اسألي الله أن يدوم رمضان، ولا ينتهي، فإن الجميع هُنا يقول بأن دُعائكِ مُستجاب، وحتى أنكِ حين تقرأين على أطفالهِم وهم مُرضى يَصِحون وَيشفون، فأطلبي من الله لي ألا ينتهي رمضان -وقَد كنتُ هُنا في عمرِ العاشرةِ، وفَي زمننا الحالي هو عمرٌ صغير للأغلب ولكن في بيئتنا كُنا نُعامل مُعاملةَ الكبارِ مِن سِن السابعة- فأومأت لي جدتي برأسها أن أجلس الآن حتى تنتهي من القراءة، وفعلًا انتظرتها إلى أن أنهت القرآءة، ثُم أذن الظهر وبعد انتهاء صلاة الظهر وأنا بجانبها على سجادتي، قالت: ولِماذا تطلبين مني أن أدعوا الله لَكِ؟ فأنت كذلك تستطيعين أن تطلبي من الله ما تشاءين فإنه سميعٌ مُجيب لنا كلنا فقط علينا ألا نتعدى حدوده ونتقيه فهذا هو ما يشفع لدعواتنا ويحميها من الارتداد دون استجابة.
ومِنذ ذلك اليوم وَجدتُ لذة الدُعاءِ والتقربِ إلى اللهِ في جوفِ الليل، وتَعلمت أن رَمضانَ ينتهي حتى يعود لَنا ونحنُ في شوقٍ.