د. يوسف بن حمد البلوشي
الاستثمار المحلي يحتاج إلى أُسس وأبجديات خاصة، تمامًا كتلك التي يحتاجها إنشاء بناء مُعين، خصوصًا إذا ما علمنا أنَّ زيادة هذا الاستثمار تُسهم في زيادة الإنتاج والتصنيع المحلي والتصدير، والحصول على عُملة صعبة، وبالتالي تكبير حجم الاقتصاد وقُدرته على خلق فُرص عمل مُجزية للمواطنين، والعكس صحيح.
ويُخطئ من يعتقد أن الاستثمار يُمكن أن يتم بدون رأس مال، وتمويل بتكلفة واشتراطات مُناسبة، فقد أفردت دروس وتجارب التنمية مساحات واسعة لتناول هذا الموضوع، بصفته المُكوّن الأهم في مُعادلة التنمية، واحتساب الناتج المحلي الإجمالي، والذي ما هو إلا جملة للاستثمار الكُلي، مُضاف إليه جُملة الاستهلاك الكُلي في الاقتصاد، والأهم بين الاثنين هو الاستثمار لما يُعرف بالمُضاعف. ولذلك اهتمت الدول بتشجيع الاستثمار، بشقيه المحلي والأجنبي، وعملت على تيسير الحصول على تمويل، وأقرت من التشريعات ما يُحقق ذلك الهدف.
أكدنا مرارًا أهمية تحقيق تحولات جوهرية في القطاع المصرفي، وأن يكون للبنك المركزي العُماني دور مُتجدد، وكذلك للمؤسسات المالية كبورصة مسقط، والبنوك وشركات التمويل.. ولكن لا يزال هُناك من يرى أن إغفال أهم عنصر من عناصر وعوامل الإنتاج الأربعة وهو رأس المال، لن يؤثر في مُعادلة التنمية وتحريكها لتحقيق عناوين المُستقبل.
يتفق الكثيرون على أن السبيل الأمثل والمُستدام لإيجاد فرص عمل للأعداد المُتزايدة للباحثين عن عمل، يكون من خلال توسيع القواعد الإنتاجية، والتي لن تتحقق بدون منظومة وعناصر مُتكاملة من رأس المال وسوق العمل وجودة أُطر وإدارة اقتصادية، قادرة على ربط موارد الوطن الطبيعية والبشرية، ومكامن قوته الجغرافية والجيوسياسية، ونسيجه المُجتمعي، بطريقة تتناسب مع تحديات وحاجات المرحلة، التي أصبحت مُتغيرة، وتستوجب تحولات نوعية وذهنيات تؤمن بأن التغيير هو الثابت الوحيد الذي لا يتغير، تكون قادرة عليه وليس الحديث عنه.
الإحصاءات، المحلية والأجنبية، تؤشر إلى عدد من الحقائق والاختلالات، أهمها: اتساع الفجوة بين حاجات الاستثمار لتحريك قاطرات التنمية في القطاعات المُختلفة، والقدرات المالية للمؤسسات المالية في السلطنة (بنوك وشركات تمويل واستثمار)، فجميعها متواضعة ولا تُضاهي نصف بنك خليجي. كما إن تكلفة التمويل (سعر الفائدة)، التي تتراوح ما بين 6 و7 بالمئة، هي الأعلى خليجيًا، واشتراطات الحصول عليه تُعد الأقسى في المنطقة، ولا يتجاوز نصيب الشركات الصغيرة والمُتوسطة 3.5 بالمئة، في حين أن الأوامر السامية حددت- ومنذ العام 2014- ضرورة أن تصل إلى 5 بالمئة. كما يعاني المستثمر المحلي والأجنبي من طول المدد والإجراءات والأوراق والاستمارات المطلوبة لفتح حساب، ويُلاحظ أن هُناك تحييدًا لدور السياسة النقدية، كإحدى السياسات الاقتصادية المهمة، ويتجه مُعظم الائتمان المصرفي لتمويل الحُكومة وموظفيها وشركاتها. وفيما يتعلق بالتنافسية، فإن تقرير تنافسية مُمارسة الأعمال الأخير يُشير إلى تحسن نسبي في كل مؤشرات التنافسية في السلطنة، باستثناء مؤشر الحصول على تمويل، والذي تراجع إلى مرتبة مُتدنية (144)، وهذا يقرع أجراسًا مسموعة لموضوع ندرة نوافذ التمويل في سلطنة عُمان.
الأرقام المتوفرة تؤكد أن مُعظم الائتمان يتوجه للقروض الشخصية، والتي بلغت 39 بالمئة عام 2021، كما كان نمو التمويل الموجه إلى القطاع الخاص ضعيفًا؛ إذ تراوحت نسبة نموه بين 1 و2 بالمئة العام الماضي، في وقت كان فيه القطاع الخاص في أمسِّ الحاجة إلى "أوكسجين التمويل"؛ حيث أدى نقصه إلى تعسر وتصفية وإغلاق العديد من الشركات، وتسريح الكثير من العاملين والموظفين، فضلًا عن خروج أكثر من 350 ألف وافد خارج البلد. كل ذلك نتج عنه خسائر ضخمة لدورة الأنشطة الاقتصادية المحلية، وفقدان قوة شرائية كانت مُحركًا لأنشطة تجارية يمتلكها المواطنون، ما أدى إلى انحسار دخولهم، وتعرض الطبقة المُتوسطة لضغوط مُتصاعدة وبشكل مُطرد. هُناك الكثير من الحلول متاحة، التي تتطلب فقط الاستفادة من مُمارسات دول الجوار وما طبقته دول العالم المُتقدم، إلّا أنه في المقام الأول يجب الاعتراف بوجود مُشكلة، ومن ثم تغيير المُمارسات والذُهنيات التقليدية المُرتبطة بإدارة هذا القطاع. ولضيق المساحة، سأذكر بعض مُتطلبات ذلك:
- المؤسسات المالية مُطالبة بمُضاعفة رؤوس أموالها، والدخول في اندماجات، بهدف تكوين كيانات مالية قادرة على امتصاص الصدمات، وتقديم التمويل بأوعية وتكلفة مُناسبة.
- إطلاق برنامج كفالة وضمان للقروض، يتبناه البنك المركزي ووزارة المالية، بمُشاركة المؤسسات المالية، يوجه لتمويل القطاعات الإنتاجية والشركات، والتي تمثل مُحركات الرؤية "عمان 2040".
- مُضاعفة رأس مال بنك التنمية العماني، وإجراء تعديلات جوهرية في أسلوب إدارته واشتراطاته، وإنشاء بنك صناعي وصناديق مُسرِّعات الاستثمار.
- فتح المجال لاستقطاب بنوك وشركات تمويل واستثمار دولية، من خلال حوافز ذكية، فمن غير المقبول أن آخر بنك دخل العمل في سلطنة عُمان كان في عام 2007.
- ما تزال السلطنة تفتقر لمُمارسات وأدوات، من قبيل بنك للقروض الصغيرة، وبرنامج تحفيز ودعم الصادرات، والذي تطبق في مُعظم دول العام.
- يتوجب على الحُكومة أن تكون أكثر ابتكارًا في ترتيب احتياجاتها من التمويل وعدم مُزاحمة الشركات، والحد من إصدارات السندات وأُذون الخزانة، ومواصلة تأجيل سدادها، لسحب السيولة والائتمان، والذي وجد للدفع بقطاعات الإنتاج التي يقودها القطاع الخاص.
- غرفة تجارة وصناعة عُمان مُطالبة بتعظيم الاستفادة من رصيدها المالي الكبير لخدمة مُنتسبيها، وتقديم البرامج التي يحتاجونها، ولعب دور أكثر تأثيرًا للدفع بملف نُدرة وتكلفة واشتراطات التمويل في الاتجاه المرغوب.
بقي أن نُشير إلى أن هُناك مآخذ وعتب على قيادات الجهاز المصرفي ومُلاك ومُساهمي المؤسسات المالية (بنوك وشركات التمويل)، الذين نفاخر بهم وبحسهم الوطني، من ناحية عدم استيعاب الديناميكيات واستحقاقات المرحلة، وإغفالهم أننا أمام جاهزية كبيرة على مُختلف الأصعدة؛ فهؤلاء يملكون أحد أهم مفاتيح وعناصر النجاح، ولهم دور محوري في غرس ثقافة الادخار والاستثمار والوعي المالي، والتحولات النوعية المنشودة لتطوير القطاع المالي، وبما يحقق عناوين الرؤية"عُمان 2040".
ومن وجهة نظري، كأحد القريبين من القطاع المصرفي، هُناك مُثبِّطات أخرى لنمو وتحول هذا القطاع، من بينها محدودية هامش المخاطرة، الذي يُقبل عليه جميع المُتعاملين. الكل يلعب على المضمون والحديث هُنا عن البنوك والشركات، والأفراد والحكومة ذاتها، فضلًا عن وجود هيمنة لجنسية مُعينة في الإدارات العليا للقطاع، ناهيك عن تواضع دور المُنظم له (البنك المركزي) في تبني سياسات ومُبادرات، من شأنها أن تُعيد انبثاقه بحلة جديدة تفرضها المرحلة.
الجهاز المصرفي في أي دولة يُمثل عصب التنمية، بينما تُمثل البنوك والمؤسسات المالية أحد أهم أدوات وقاطرات تكبير حجم الاقتصاد، وإيجاد مزيد من فُرص عمل. الموضوع يحتاج لإدخال تغييرات حتمية في تركيبة الـ (DNA)الخاص بالقطاع المصرفي العُماني، إذا ما أردنا تحقيق رؤيتنا ومساعيها نحو تنويع الاقتصاد واستدامة التنمية.
يجب الإيمان بأن لكل مرحلة أدواتها، وأن السلطنة خلال العقود الخمسة المُنصرمة، نجحت في بناء ترسانة رقابية قوية على القطاع المصرفي وفق أفضل المُمارسات ومُتطلبات "بازل 1 و2".. وكُلي يقين- كما الكثيرين- أن السلطنة تستطيع إدارة التحولات النوعية الضرورية لنهضة مُتجددة، الأمر الذي يستوجب الفهم العميق لتركيبة الجهاز المصرفي وتفاعل مُكوناته.
وأختمُ بما بدأت؛ البناء لا يمكنه الصعود والصمود دون قواعد وأسس، كما لا يُمكن- دون توفر تمويل بتكلفة واشتراطات مُناسبة- لأي استثمار وإنتاج وتصنيع ووظائف وتنمية أن يتحقق.