روحك.. البعد الغائب في شخصيتك (2)

 

الطريق إلى السعادة

 

عباس آل حميد

 

تذكر دراسة أجراها دونيلي ونورتون في جامعة هارفارد على 4000 مليونير أنَّ المال يسهم في السعادة كونه يلبي الاحتياجات الأساسية، ولكن عند حد مُعين لا يُحقق المزيد من المال مزيدًا من السعادة.

وأجاب رافائيل بادزياج في كتابه "سر المليار دولار" -في بحث امتد على مدار ست سنوات ومقابلات أجراها مع 21 مليارديرًا عصاميًّا- حين سئل: "هل المليارديرات سعداء؟" قائلًا: إنَّ المال بحد ذاته لا يغير في قدرة المرء على أن يكون سعيدًا، إنه فقط يضخِّم من شخصيته؛ بمعنى أن السعداء يصبحون أكثر سعادة، أما التعساء فيشعرون بالبؤس عندما يصبحون أثرياء.

وبالرغم من هذه الحقيقة، فإن الغالبية العظمى منَّا تظن أن الثروة هي مصدر السعادة. ويشير الدكتور روبرت والدينجر ومدير دراسة هارفارد لتنمية البالغين إلى دراسة أجريت مؤخرًا على جيل الألفية، وجاء السؤال فيها عن أكثر أهداف حياتهم أهمية، فأجاب أكثر من 80% بأنَّ هدفهم الأساس في الحياة أن يصبحوا أغنياء، وقال 50% إن ثاني أهدافهم الرئيسة أن يصبحوا مشهورين.

المشكلة أننا في المراحل الأولى من أعمارنا لا نملك النضج والحكمة الكافيين لإدارة حياتنا بالشكل الذي يحقق لنا الطمأنينة والسعادة، وبذلك نقع فريسة العقل الجمعي والأوهام التي تصنعها ميكنة الأعمال والإعلام في العالم كله، فنقع أسيرين لها، ولا نكاد نملك قرارنا وإرادتنا، وإنما نساق سوقًا إلى الانخراط في الأنماط الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية والثقافية المرسومة لنا إلى أن يفوت الأوان، وحينها إن انتبهت قلة منا وأدركت الحقيقة فإنها في الغالب لا تملك الإرادة والقدرة والمعرفة الكافية لمواجهة الوضع السائد وتغيير مصيرها المرسوم لها.

وليست العوامل الخارجية وحدها هي التي تدفعنا إلى السعي وراء الثروة والشهرة والنفوذ، وإنما هناك مجموعة من الحاجات الإنسانية الطبيعية للسعي لامتلاك القوة وتحقيق الذات، وهذه المظاهر من الثروة والنفوذ والشهرة تمنحنا القوة فعلا، لكنها قوة خارجية، ولا تحقق القوة الذاتية، وبذا تكون عرضة لمؤثرات خارجية، مثل فقدان صديق، أو هجر زوجة، أو مؤثرات داخلية، مثل الإحساس بالضياع، وفقدان الهدف من الحياة، وارتدادتها في النفس بما ينعكس في صورة أمراض واضطرابات نفسية وإحساس بالشقاء.

تعالوا نتعرف على مفهوم السعادة التي نبحث عنها لنستطيع -في ضوئه- معرفة الطريق إليها، ولا نقع أسرى للأوهام والقوالب الجاهزة.

بدايةً يجب أن يكون واضحًا لدينا أن السعادة تختلف عن الفرح، وأنها لا تتعارض مع الحزن، وإنما هي مضاد الشقاء؛ فالمرء قد يكون سعيدًا وهو حزين.

الفرح والحزن حالتان طارئتان يشعر بهما الإنسان نتيجة التفاعل مع العوامل الخارجية، فيشعر بالفرح عندما يحقق نتيجة جيدة في العمل أو الدراسة مثلًا، أو عندما يحصل على هدية تعجبه، أو عندما يلتقي إنسانًا يحبه لم يره منذ زمن طويل، ويشعر بالحزن عندما يسمع خبرًا مؤلمًا مثلًا أو ما شابه.

فالفرح والحزن أمران غريزيان في الإنسان، ويصدران بشكل عفوي تلقائي نتيجة تفاعل عقله الباطن وشخصيته مع الأحداث الخارجية، وهما مؤشران جيدان لمعرفة الشخصية وخصوصياتها، وقد يكونان مذمومين إذا كشفا عن شخصية ضعيفة سيئة مادية مثلًا، ويكونان ممدوحين إذا كشفا عن شخصية قوية معطاءة نبيلة.

بينما السعادة -كما يعرفها مايكل أرجايل في كتابه سيكولوجية السعادة- هي: "الشعور بالرضا والإشباع، وطمأنينة النفس، وتحقيق الذات، والشعور بالبهجة واللذة والاستمتاع، وهي (باختصار): الشعور بالرضا الشامل".

ويعرفها الميزان عند تفسير قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ﴾ [هود: 105] بأن "سعادة كل شيء أن ينال ما لوجوده من الخير الذي يكمل بسببه ويلتذُّ به؛ فهي في الإنسان -وهو مركب من روح وبدن- أن ينال الخير بحسب قواه البدنية والروحية، فيتنعَّم به ويلتذّ، وشقاوته أن يفقد ذلك ويُحرم منه".

السعادة حالة نفسية راسخة في الإنسان تتحدد شدة وضعفًا بشكل تراكمي نتيجة كثير من المعطيات الداخلية والخارجية من خلال حركة الإنسان في هذه الحياة، وهي الوجه الآخر لحالة الطمأنينة التي قال عنها الله تعالى: ﴿يَأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً﴾ [الفجر: 27- 28].

تتحدد سعادة الإنسان بمدى اتسامه بالصدق الذاتي مع نفسه، أو بعبارة أخرى: مدى انسجام واتفاق كل سلوك وحركة تصدر من الإنسان نحو إشباع حاجاته وغرائزه الطبيعية (الجسد)، وكل ما يشعر به من مشاعر وأحاسيس (القلب)، وتفكيره ومعرفته ومعتقداته ومنظوراته ورؤاه في الحياة (العقل) مع بعضها البعض، ومع روحه وفطرته التي أودعها الله فيه (الروح).

ويقول ستيفن آر. كوفي في كتابه العادة الثامنة: "هناك سبب واحد بسيط شامل يفسر سر عدم رضا كثيرين عن عملهم، ويفسر فشل معظم المؤسسات في استخراج أعظم موهبة وبراعة وإبداع لدى العاملين بها، ولا تحظى هذه المؤسسات بالنجاح والاستمرارية مطلقًا، إنها تنطلق من نموذج فكري غير مكتمل عن ماهيتنا، ورؤيتنا الأساسية للطبيعة البشرية، والحقيقة الأساسية أن البشر ليسوا أشياء تحتاج لدفعها والتحكم فيها، بل كائنات رباعية الأبعاد: الجسد، والعقل، والقلب، والروح".

والبحث عن الحقيقة (حب الاستطلاع)، والنزوع إلى الأخلاق والتمسك بها والنزوع إلى الجمال بأوجهه المختلفة والرغبة في الخلاقية والإبداع والبحث عن الحب والانتماء جميعها تنبع من فطرة الإنسان، وحقيقتها تكمن في أن الإنسان مكون من جسم وروح. ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ [الحجر: 28 - 29]، فالعناصر الطبيعية في الإنسان تميل به نحو الطبيعة وتربطه بها، والعناصر غير الطبيعية فيه تميل به نحو ما وراء الطبيعة وتربطه بها.

ومن هذه الفطر الإنسانية النزعة واللهفة نحو التكامل والارتقاء والعظمة. يقول ستيفن آر. كوفي في كتابه العادة الثامنة: "في أعماق كل واحد منا ثمة شوق داخلي لأن يحيا حياة العظمة والعطاء"، وهو ما يُعرف في الثقافة الإسلامية بالتخلق بأخلاق الله والسير إليه سبحانه والقرب منه عز وجل. ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ [الروم: 30].

إذن يبدأ طريق تحقيق السعادة والطمأنينة والاستزادة منهما بالسير والتطور في درب الصدق الذاتي حتى يبلغ الإنسان مرحلة الصديقين، فكلما ازدادت الأبعاد الأربعة لشخصية الإنسان (الجسد والعقل والقلب والروح) انسجامًا وتوافقًا فيما بينها اتسمت شخصيته بالبساطة والقوة والطمأنينة والعظمة والرضا حتى تبلغ مرحلة الصديقين، وهي المرحلة التي لا يعود فيها أي اختلاف مطلقًا بين هذه الأبعاد الأربعة من الإنسان، وتكون حاكية عن بعضها البعض بشكل مطلق وتام ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ ۚ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا﴾ [مريم: 41].

ولمعرفة المزيد عن هذا الأمر ترقب كتابيَّ القادمين: "اصنع حياتك بيديك.. إدارة النمو المهني"، و "لا حدود.. أطلق العنان لنفسك".

تعليق عبر الفيس بوك