يوسف عوض العازمي
@alzmi1969
"ومن حدثك عن حلم الدولة العادلة.. فلا تقل له شيئًا.. اتركه للزمن.. وقل حسبي الله على كتب التاريخ" مصطفى الحسن.
**********
لا شك أن الكثير منِّا ينحدر من أسر بسيطة، قد لايكون لها تأثير في القرارات المجتمعية أو السياسية، وصعب جدا أن يتذكرنا التاريخ لو بسطر واحد من صفحاته الهائلة، رغم أن منِّا من سجل تاريخًا يستحق ذكره وتدوينه تاريخيًا، إنما لأن للتاريخ وجوه قطعا ليس منها وجها يهتم للمهمشين والبسطاء إلا ماندر، إن حصل ذلك!
لو تمعنا بصفحات التاريخ لوجدنا الأغلب يتحدث عن الأحداث المؤثرة التي تكون عناصرها من السياسيين والعسكريين أو الوجوه العلمية أو الثقافية أو الآجتماعية الشهيرة وقت الحدث، صعب جدا تجد تأريخا لأحد البسطاء أو ما يسمى بـ"المسحوقين"! لا شك أن عذر المؤرخين معقول لعدم تدوين وتأريخ مسيرة وحياة هذه الفئات البسيطة من خلق الله؛ لأن صفحات التاريخ الحالية التي تتحدث عن أحداث التاريخ القديم والوسيط والحديث والمعاصر لكل بقاع العالم قد لا تتجاوز الملايين من الصفحات المكتوبة، فتصور لو تم تأريخ تاريخ البسطاء، فلن تكفيك المليارات من الأوراق الغارقة بالحبر، ناهيك عن عدم أهميتها القاطعة في الأحداث، ففي أكثر الأحيان تجدها مجرد أداة وعلى هامش الحدث، وليست محركًا رئيسيًا.
بالطبع لا يعني ذلك التنكر إنما تخيل جيش من 100 ألف مقاتل وأنت مؤرخ، فلمن ستؤرخ وما هو الأسهل لك، لا شك أن تأريخ القائد والقادة أكثر فائدة لاحتمال وجود معلومة، أما الأفراد المائة ألف فمن أين ستجد معلومة عن أيٍ من جنود هذا الجيش العرمرم؟
أحداث تاريخية كثيرة تم تدوينها بأبسط طريقة ممكنة وبلا تفاصيل وإن وجدت مختلقة، إذ تقوم اعداد ليست قليلة بإشعال الحدث ولايؤرخ أو يذكر سوى شخصيتين أو ثلاث أو عدد لايزيد عن أصابع اليد الواحدة، وإن أستخدمنا التفكير النقدي أو الشك سنجد أن هناك شخصيات مبتكرة من المؤرخ ولا وجود لها على أرض الواقع لذلك من أهم المعضلات أن يتحول المؤرخ من مؤرخ أحداث حقيقية إلى كاتب روايات أدبية!
الأدب بأنواعه ليس بعيدًا عن التاريخ بل يغرف من صفحاته، وكثيرا من الروايات الأدبية الشهيرة هي في الحقيقة تأريخ مبطن لأحداث وقعت وحقيقية إنما لحاجة في نفس يعقوب تم إتمامها وتوصيلها للمتلقي كرواية وليست ككتاب تاريخي أصيل، ومن يتابع الحركة الأدبية وتداول الروايات، خاصة الروايات التي وصلت إلى جوائز عالمية، سيفهم ما أقول، هنا قد نتوقف ونبحث الأمر من عدة نواح منها وهو كما أظن الأهم التبعات الأمنية، نعلم تمامًا أننا لسنا مجتمعًا ملائكيًا ولا توجد الديمقراطية أو حرية الرأي إلا على الخط العريض بالصفحة الأولى بأكثر الصحف رواجًا؛ لذلك يكون اللجوء للصفة الروائية ذات الصبغة الأدبية هو الأسلم، وطبعًا ما سبق ليس دفاعًا؛ بل وصفًا لحالة نراها واضحة، وقد تكون للمؤلف وجهة نظر معينة وتكون وجيهة، ربما أراد إسقاطات معينة ليوصل مفاهيم اجتهد بها على طريقة المعنى في بطن الشاعر، ولا ننسى أن كثيرًا من الكتاب يعتمدون أساسًا على ذكاء القارئ في فهم الحبكة المكتوبة، لذلك قُرّاء ما بين السطور هم المستهدفون في نوعية هذه الروايات الآخذة الطبع التاريخي، والتي تسقط معانيها على الحاضر، هذه كما ارى لعبة أدبية مشروعة ولايجيدها إلا الندرة من الكُتّاب.
بطبيعتي لا أذكر اسماء بعينها درءًا لأية امور قد تفهم في غير السياق، إلا بأمور ضيقة وتكون في غير حاجة لهذا الدرء والتمويه، لكني سأتحدث عن أمر يعلمه كل متابع في وقتنا الحالي أو السنين القليلة الماضية، ألا وهو ماجرى في رحلات اللجوء إلى اوروبا من اللاجئين العرب وغيرهم (كتبت أوروبا وأنا اعتصر ألما إذ يفترض منطقيا بعد الأحداث المؤسفة أن يلجؤو إلى أخوانهم العرب!) وما تكبده اولائك البسطاء من معاناة ومواجهة أخطار هائلة من أجل الوصول إلى شاطئ الامان أو الجنة الموعودة في فيافي أوروبا، تلك الظروف الصعبة جدا التي لايتحملها أي بشر، واتذكر المثل القائل : المضطر يركب الصعب، بالطبع الكثير ممن يقرأ هذه الكلمات يفهم أن اللآجئين من جنسية واحدة إنما في الواقع من عدة جنسيات منها جنسيات من بلاد مسلمة غير عربية، الكل أدعى أنه من هذه الجنسية المنكوب أهلها حتى يستغلوا تعاطف العالم!
يتبادر في ذهني سؤال: ألا يستحق هؤلاء التدوين والكتابة عنهم كجزء مهم يُبيّن الكثير عمّا جرى في وقتنا المعاصر، هم بسطاء نعم، لكنهم يحملون أجزاءً كثيرة من صفحات تاريخية مهملة عن تاريخنا المعاصر، وكي تفهم الحدث وتراه بصورته الكاملة عليك أن تتجول في كل أجزاءه، وأحد أهم الأجزاء الابرياء الذين أصبحوا ضحية وقربانا لهذا الحدث. ومن يريد فهم ما جرى في "الربيع العربي" عليه ألا يتجاوز ما جرى للاجئين الذين عبروا البراري والبحار بحثًا عن لحظة آمنة بعيدًا عن الوطن المفترض أنه "بر الأمان". ومن سيقابلهم سيجد أن من سمع ليس كمن رأى، هناك ملفات ضائعة وأسرار ما زالت مكتومة، ومعاناة لم يعلم عنها عند هؤلاء البسطاء، باحث التاريخ الذي سيتابع ذلك سيلحظ تطورات إنسانية سلبا أم إيجابا حصلت، وسيشاهد تحولات ديمغرافية حدثت من الجانبين، الجانب الذي تم الهروب منه، والجانب المستقبل لهم، تصور التغيرات الديمغرافية في التركيبة السكانية في الجانبين، إن ماحدث في السنين الماضية هي أحداث تاريخية بإمتياز كتبتها معاناة هؤلاء البسطاء، وتم تجاهلها لأنه ليس من بين أولائك البسطاء أسم شهير!
قرأت أن هناك روايات قليلة جدا صدرت تدون معاناة اللاجئين إنما لأن المؤلفين ليسوا من طينة نجيب محفوظ أو أورهان باموق فلم تنتشر هذه الروايات.
باحثو التاريخ الحديث أمامهم فرص ذهبية لتدوين أحداث رحلات اللجوء إلى أوروبا، وفي هذه الرحلات ما لم يطرأ على البال، وفيها من المعلومات والعبر مايسد آلاف الصفحات، وممكن جدا تجد بينها معلومات هامة عما جرى ويجري في ساحات السياسة ومعارك العسكر ومحطات الجمارك ودهاليز التهريب وسماسرته، وقد تكتشف أن هناك دولا استغلت معاناة البسطاء وأصبحت تمارس دور سمسار التهريب. في عالم السياسة الخالي من القيم كل شيء يحدث، واللامعقول هو المعقول نفسه، لذلك حينما يكون أمرك بيد غيرك أعانك الله.