بيرجينسكي.. و"لوحة الشطرنج"

 

علي الرئيسي **

 

السردية المنتشرة في الإعلام الغربي دائمًا تُغيب الحقائق الفعلية لأيِّ صراع؛ سواءً كان احتلال فلسطين أو الحرب الأوكرانية؛ حيث إن ما لم تذكره وسائل الإعلام الغربية، أن انقلابًا عسكريًا حدث في عام 2014 ضد حكومة مُنتخبة بقيادة فيكتور يانوكوفيتش، بعد أن رفضت حكومته شروط صندوق النقد الدولي واتجه نحو روسيا لتقديم العون الاقتصادي، مما أغضب الغرب.

الانقلاب تمَّ جزئيًا بمساعدة القوى اليمينية والنازية المتطرفة والتي لها جذور منذ الحرب العالمية الثانية. وقد قامت الحكومة بممارسة القمع ضد الأقلية الروسية التي تقطن القرم وشرق أوكرانيا، مما أشعل حربًا أهلية استمرت لمدة 8 سنوات قتل فيها أكثر من 14 ألف شخص.

لقد حذَّر عدد من الخبراء بما فيهم خبراء أمريكان بأن محاولة حلف الناتو محاصرة روسيا، وذلك بضم كل من أوكرانيا وجورجيا إلى الحلف سيشكل خطرا وجوديا لروسيا. وأن هذا الأمر لا يمكن أن تقبل به أي قيادة روسية، غير أن الولايات المتحدة ونظام كييف المتحالف معها، تجاهلوا كل هذه التحذيرات.

مع تحول الحرب الأهلية في أوكرانيا إلى حرب شاملة بين روسيا وأوكرانيا. من الضروري  العودة  إلى أصل الحرب الباردة الجديدة  بين روسيا وحلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. علينا  العودة إلى قرار واشنطن إنشاء نظام عالمي جديد وذلك بعد انتهاء الحرب الباردة وتفككك الاتحاد السوفييتي في عام 1991. وبعد أشهر من انهيار الاتحاد السوفييتي، أصدر بول ويلفتز- الذي كان وقتها وكيلا لوزارة الدفاع للسياسات في إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش- مذكرة توجيهية جاء فيها: "سياستنا بعد سقوط الاتحاد السوفييتي هو التركيز على منع ظهور منافس لنا على مستوى العالم". وأكد ويلفتز أن "روسيا لا تزال القوة العسكرية الأقوى في أوراسيا... نحن بحاجة لجهود غير عادية لإضعاف روسيا  والقضاء على دور روسيا الاستراتيجي بشكل دائم وللأبد قبل أن تتعافى، وعلينا بالتالي ضم كل الدول المحيطة بروسيا، أو تلك التي كانت جزء من الاتحاد السوفييتي إلى دائرة النفوذ الاستراتيجي الغربي".

ولقد تم تبني الخطوط العريضة تلك المذكرة التوجيهية من قبل المخططين الاستراتيجيين الأمريكان منذ ذلك الحين.

هذه العقيدة الجيواستراتيجية، كان هدفها هو الهيمنة على العالم، وهو الهدف الاستراتيجي للدول الرأسمالية، والتي سميت بالاستراتيجية العظمى "Grand Strategy". وهذه الاستراتيجية هي التي كانت  توجه فكر كل من وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كسينجر وزبغنيو برجينسكي (مستشار الأمن القومي بإدارة الرئيس الأمريكي جيمي كارتر) اللذين توليا إدارة مجلس الأمن القومي في الولايات المتحدة. لقد تم تغييب هذا المبدأ من المجال العام نظرًا لارتباطه بالنازية، ومع سقوط الاتحاد السوفييتي وبقاء الولايات كقطب أحادي بدأ الاستراتيجيون الأمريكان في تداولها بشكل مكشوف، مما خلق وضعًا عالميًا جديدًا لما بعد الحرب الباردة.

طبعًا أحد أهم مؤسسي هذه الاستراتيجية هو زبغنيو برجينسكي، وهو من أصول بولندية، وهو مهندس فخ أفغانستان للاتحاد السوفييتي وقتها. ومن خلال أوامر برجينسكي وبموافقة سرية من كارتر في عام 1979، قامت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية "CIA" بإنشاء تحالف مع الإسلام السياسي؛ حيث تم بتجنيد وتدريب المجاهدين في أفغانستان، وهو ما عجّل بالتدخل السوفييتي للدفاع عن الحكومة اليسارية فيها، مما أدى إلى حروب متعددة أدت إلى عدم استقرار الاتحاد السوفييتي ذاته. وعندما سُئل برجينسكي إذا كان نادمًا على تأسيس "قوس الإرهاب" الذي أدى إلى أحداث "11 سبتمبر" وما بعدها، رد قائلا ببساطة إن تدمير الاتحاد السوفييتي يبرر ذلك الثمن!

برجينسكي ظل مستشارًا مهما للعديد من الإدارات الأمريكية المتعاقبة، وإن كان لا يشغل وظيفة رسمية؛ نظرًا لسمعته وتوجهاته المعادية لروسيا، وخاصة في التسعينات من القرن الماضي عندما كان يرأس روسيا بوريس يالستين والذي كانت علاقته مع أمريكا أشبه بعلاقة دمية تابعة. ومع ذلك، أكثر من أي مفكر استراتيجي آخر، كان برجينسكي هو الذى بلور الاستراتيجية الأمريكية ضد روسيا والتي تم تطبيقها في السنوات الثلاثين الأخيرة من قبل الإدارات الأمريكية المتعاقبة، ومن ضمنها حرب "الناتو" التي قامت بتفكيك يوغسلافيا في التسعينات من القرن الماضي، وتوسع حلف الناتو شرقًا.

لقد وعدت واشنطن الكرملين تحت قيادة ميخائيل جورباتشوف في وقت توحيد ألمانيا، أن الناتو لن يتوسع حتى بوصة واحدة "not one inch" نحو الشرق، نحو دول حلف وارسو. ومع ذلك في أكتوبر 1996، أعلن الرئيس الأمريكي بيل كلنتون في حملة لإعادة انتخابه، عن تأييده بتوسيع حلف الناتو في مناطق نفوذ الاتحاد السوفييتي السابق، وقد تم وضع سياسة التوسع في السنة التالية. وهذه السياسة تم اتباعها من الإدارات الأمريكية المتعاقبة. وفي عام 1997، أصدر برجينسكي كتابه "لوحة الشطرنج الكبرى.. الاسبقية الامريكية وضروراتها الجيوستراتيجية"، والذي أعلن فيه أن الولايات المتحدة باتت لأول مرة في وضع يسمح لها لأن تكون القوة غير الاوراسية، التي بإمكانها ان تلعب الدور الأساسي في العلاقات الأوراسية. وأمريكا بذلك ستكون القوة الأعظم في العالم، وستكون الولايات المتحدة الإمبراطورية العالمية الأولى والأخيرة بدون منازع.

كتب برجينسكي أنه لكي يتمكن حلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة للهيمنة على أوراسيا، فعليه أولا السيطرة على ما اسماه بالبقعة السوداء "Black hole" التي خلفها غياب الاتحاد السوفييتي من المسرح العالمي. وهذا يعني العمل على اضعاف دور روسيا حتي لا يمكن اعتبارها قوة عظمى. والمحور الرئيس في هذه السياسة- حسبما يذكر برجينسكي- هي أوكرانيا. وروسيا بدون أوكرانيا تكون قد أُضعفت دون رجعة. وأوكرانيا ومن خلال ضمها إلى حلف الناتو ستكون خنجرًا في قلب موسكو. لكن برجينسكي حذر من أن العمل على ضم أوكرانيا "خط أحمر" لن تقبل به روسيا. لذلك علينا توسيع الناتو حتى أوكرانيا وبالتالي وضع الصواريخ الاستراتيجية على حدود روسيا. وهذه الاستراتيجية ستجعل أوروبا- وبالذات ألمانيا- تحت الحماية الأمريكية بدون منازع.

نحن العرب والمسلمون، أكثر الشعوب التي عانت من الغزو وبالذات الغزو الغربي، الذي ساعد في احتلال فلسطين، ودمر كلًا من العراق وليبيا وأفغانستان. ولسنا مع حل الخلافات بين الدول بالتدخل العسكري والحرب، لكن من المهم أن لا نخضع لهيمنة سردية الإعلام الغربي الأحادية والمنحازة.

** باحث في قضايا الاقتصاد والتنمية