المستشار الاجتماعي

 

د. عبدالله باحجاج

مهما كانت طبيعة محيطنا السياسي الإقليمي، ومهما كانت تحولاته الاقتصادية والأيديولوجية والسياسية، ومهما كانت الإكراهات الدولية المختلفة، فإن قدر بلادنا أن تكون دولة اجتماعية قوية، بشرط أن تنعكس هذه القوة على ديمومة ومتانة المنظومة الولائية والانتمائية للمجتمع العماني.

وهذه قاعدة ذهبية للاستقرار في بلادنا مهما تعاقبت حقبها الزمنية والسياسية، ومهما تغيرت القيادات والأطر والكوادر التي تتشرف بالتسيير والتدبير والتخطيط للشأن العام في بلادنا، وهي حاكمة كذلك للتشريعات والقوانين والاستراتيجيات والسياسات في البلاد. ويقتضي التذكير بهذه القاعدة الذهبية بعد توجه السياسة المالية نحو الاستدامة وتغطية العجز دون التخفيف من الضغوط المالية على المجتمع، وكأننا لم نغادر أزمة النفط، ولم يرجع نشاطنا الاقتصادي.

فما حجم الوعي بهذه القاعدة الذهبية؟ الإجابة على التساؤل نجدها في اختياري لعنوان هذا المقال أعلاه، فطبيعة مرحلتنا المعاصرة، وما نشهده من قرارات وقوانين وسياسات متعددة، يغلب عليها التصعيد والتعدد والفردانية والبعيدة عن أية أشكال تنسيقية، تحتم وجود كيان معنوي متخصص في الشأن الاجتماعي الاقتصادي، وهو كيان "المستشار الاجتماعي" الذي ينبغي أن يكون تابعًا للمؤسسة السلطانية مباشرة، ويكون مزودًا بخبرات عمانية متعددة التخصصات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، والخبرات كذلك، هدفه تحديد الثوابت التي لا تمس، أو تلك التي ينبغي أن يمنهج المساس بها.. وكذلك، التفكير في كيفية تطوير المجتمع من خلال السياسة المالية.

فهذه الأخيرة، توظف الآن فقط كجباية الأموال من المواطنين عن طريق الضرائب والرسوم.. الخ، علمًا بأن لها هدفًا آخر ونبيلًا، وهو تطوير المجتمع، وتحديثه لكي ينسجم ويتواكب مع عملية الإصلاحات في البلاد، وهذه قضية غائبة عن السياسة المالية، ولا يمكن أن تفكر فيه، لأن اهتمامها مالي خالص، فكيف إذا كانت تحت ضغوط مالية، ومنحت كامل الصلاحيات لرسم سياسة مالية للاستدامة في أجل زمني متوسط، وكامل الصلاحيات ذاتها لتنفيذها، واصلًا، لا ينبغي التوقع أن تحافظ السياسة المالية على الأبعاد الاجتماعية. وكنا نتوقع من وزارة الاقتصاد أن يكون دورها صناعة التوازن المنطقي بين الأبعاد المالية والاجتماعية والاقتصادية، عوضًا عن تسليم المهمة بصورة مئوية كاملة لوزارة المالية.

ومطالبتي بالدولة الاجتماعية القوية، تستمد مسوغاتها؛ بل وشرعيتها من تأسيس الدولة العمانية الحديثة على البعد الاجتماعي، فلو رجعنا الى أول خطاب للمغفور له بإذن الله تعالى السلطان قابو بن سعيد مؤسس هذه الدولة الحديثة، سنجد هذا التأسيس واضحًا في فقرة مهمة منه، وهي: "إنني أعدكم أن تعيشوا سعداء لمستقبل أفضل"، والخطاب موجه للشعب العماني في 23 يوليو 1970، وطوال حقب عهده الزمنية، يمكن رؤية البعد الاجتماعي حتى عندما اندمجت البلاد في النظام الليبرالي عام 1996، عبر تبني الخصخصة ومن ثم الاندماج في العولمة.

لكن تأسيس البعد الاجتماعي في الدولة الحديثة، لم يكن على رؤية مستدامة، تحدد مسبقًا طبيعة هذا المجتمع، وانما كان هدفه احتواء مفاصل اجتماعية داخل المجتمع بالمال أو المناصب، وجعل غالبية المجتمع في اتكالية على الحكومة، وفي الحقبة الزمنية الأولى لمرحلة التأسيس، كان هناك مبررات لهذه السياسة، لدواعي فرض الدولة وجودها الترابي والديموغرافي، وكان ينبغي الانعتاق منها لاحقًا، وعلى وجه التحديد عام 1996، وهو تاريخ تطبيق رؤية "عمان 2020"، وقد تضمنت هذه الرؤية صناعة مجتمع حديث فيه من الاستقلالية الممنهجة ما يجعله يعتمد على ذاته الجماعية، لكن، تم التراجع عنها، بعد أن برزت بعض التطبيقات كإقامة النقابات العمالية.. وتحتسب الآن ضمن منظومة عدم اكتمال "رؤية 2020".

والآن، فإن الاعتداد بالبعد الاجتماعي يُختزل في الفئات الأكثر تضررًا من خطة التوازن المالي، أي أنه لم يعد شاملًا، وأخطر ما فيها، توسيع حدة الفوارق بين الطبقات، ومآلاته من الآن تبدو مكشوفة، وهي تحويل الطبقات من الثلاثية الآمنة والمنتجة للاستقرار، إلى الثنائية المخيفة، وإن وُجدت طبقة ثالثة ستكون من منتفعي الحقبة الزمنية السابقة، وستكون محدودة. وتتوافر لدي إحصائية رسمية من المركز الوطني للإحصاء والمعلومات عن حجم المرتبات في البلاد بما فيهم المتقاعدين، تُبيّن بوضوح حدة الفوارق من جهة، وتبرز الأقلية وحظوظها في تعليم أبنائها في المدارس الاجنبية الجديدة التي تنشئها بعض صناديق التقاعد في البلاد، ومن ثم تضمن المناصب العليا، والوظائف المؤثرة في مستقبل صناعة القرار، بينما سيكون أبناء الأغلبية في المدارس الحكومية العامة، بما فيها مدارس التلمذة المهنية، فلنا تصوير هذا المشهد، وقد فعلت، من هنا نقرع جرس التحذير من الآن.

لذلك.. نحتاج لهذا المستشار الاجتماعي بمركزيته سالفة الذكر، فهو سيمثل فكر الدولة الاجتماعي في مرحلة التحول المالي الطاغي. فكرٌ سيدافع عن قضايا الارتباط الاجتماعي بالوطن، وعن إحداث التوازن الآمن بين الطبقات، ووضع استراتيجيات تطوير المجتمع بعد الانتهاء من دولة الرفاه التي كانت محكومة بعصر النفط. فكرٌ استشرافي وتخطيطي للمآلات والمسارات المتضاربة التي تعيد صناعة المجتمع من جديد على قاعدة الاستدامة المالية عبر الضرائب والرسوم، واقتصار الدعم على الفئات الأكثر تضررًا رغم أن أغلبية المجتمع متضررة. فكرٌ سيلفت انتباه صناع القرار لخطورة بعض السياسات المالية والإدارية، ومدى تقاطعها مع مرحلة الانفتاح الإقليمي / الخليجي على أعداء الامة، وتمكينهم من إقامة احياء سكنية وكليات ومراكز وكنائس ومعابد... إلخ، وهذا يعني حق تواجدهم "المدني والاقتصادي" في كل الدول الخليجية بحكم القانون الخليجي، فهل السياسة المالية تفكِّر في مثل هذه التحديات؟

هنا نجدها تساهم بصورة لا إرادية في صناعة البيئات المتوالية لاختراق المجتمع، ليس حصريًا على هذه الفئة فقط؛ بل لكل جماعة عندها أجندات سياسية وفكرية تسعى الى تحقيقها.

من هنا، أرى أن طبيعة مرحلتنا الوطنية ببعديها الداخلي والخارجي، تحتاج للمستشار الاجتماعي؛ فالروح الاجتماعية في السياسات المالية والكثير من القوانين والقرارات تكاد تكون غائبة تمامًا، وتتم بمعزل عن كل التحديات سالفة الذكر، وقد رسمت خارطة ذهنية بما سيواجهنا خلال المدى المنظور من البوابة الاجتماعية، واعترف أن هذه الخارطة لم تكن شاملة، وقد حرصت على تناولها من تلكم الاتجاهات لأنني هدفت من خلالها ملامسة الوعي السياسي، فهل نجحت؟!