رمضان كريم

 

فاطمة اليمانية

 

إن لم تثق برغيفي كي تصوم معي!

فكيف تنقذ روحا ذات مسغَبةِ؟!

الشاعر المصري أحمد بخيت.

***

صديقي المرحوم..

وأنتَ الآن في قبرك تفتحُ هاتفك.. وتقرأ رسائلي التي تزاحم رسائل أصدقائك وأحبّائك ومعارفك! رغم ذلك لم تلتفت لرسائلهم.. وقَصَدت رسائلي!

فما بيننا أكبر من أن ينهيه الموت، ويبتلعه القبر..

وأنت اسميته يوما ما مستدعٍ جميع قواك العقلية وقدرتك على الإبداع:

 ظمأ!

تلك العلاقة المشابهة لعلاقتك بذلك الحيّز من الأماكن.. والأشياء!

قلتَ لي محاولا كسر غمامة سوء الفهم عن ذهني:

في منزلي الكثير من الكراسي.. رغم ذلك لا يروقني إلّا كرسيّ منزوٍ يبعد عن النافذة ثلاثة أمتار.. يحجب عنّي ضوء النافذة المزعج! ويثير حَنَقَ الغرفة المظلمة! يثير حنق الظلام! معبّرا عن ثنائية وجودية أزلية..

كالصراع بين أيّ قُطبين.. أو جهتين.. أو ضِدّين!

كأن تمتزج أرواحنا رغم اختلافها!

وسألتك يومها:

 لماذا؟

 لأنّي أشعرُ بالظمأ! أنا فعلا أشعرُ بالظمأ!

لذلك أفرَغتَ سطلا كاملا من الماء البارد في جوفك ليلة البارحة.. ولم تتوقف إلّا عند سماع أذان الفجر! وحملتَ صومك معك إلى قبرك.. أنتَ الآن ميّت على قدر عالٍ من الشرف..

ولأنّك متّ صائما.. كان احتضارك سهلا جدا.. لم يكن الأمر بتلك الصعوبة التي حدّثوكَ عنها.. من أنّ الروح قبل انسلاخها تنخر في العظام وتؤلمها.. مسببة ألماً أشبه بانسلاخ الجلد الحيّ!

 لم يكن كذلك!

 فروحك كانت تعتبر هذا الرحيل خلاصا.. كانت تترقبه في اليوم الواحد عشرات المرّات..

ولم تعدّ دقائق الانتظار.. لم تقم بحسابها!

 إنما عددتَ نقودك المبعثرة في محفظتك لتعيد ترتيب أولويات إنفاقها.. عشرة ريالات لفتى صغير يقف خلف طاولة يبيع الشاي الباهت اللون والطعم مدّعٍ بأنّ لهذا الشاي قدرة عجيبة على إزالة وَهَنِ الصيام؛ فتقول له مشاكسا:

 متى أشربه؟

 الآن إن كُنتَ على سفر!

فأثار ردّه الذكي إعجابك؛ فناولته إكرامية إعجابا بدعابته:

 هذه لك يا بطل!

فتناولها فَرِحا.. ثم مسح دمعة سقطت سهوا من عينيه البريئتين، وهو يقاوم شعوره بالضعف أمام كَرَمِكَ.. وأخبرك بأنّ أحدهم اشترى ليلة البارحة كوبا؛ فسكبه على الأرض، واستعاد المائة بيسة لسوء الطعم! ورغم فضولك في معرفة من يعدّ له الشاي.. إلّا أنّك لم تسأل!

وأنا أعرفُ عجزك عن طرح الأسئلة.. لأنّ طرح السؤال يستدعي البحث عن إجابة، والوصول إلى الإجابة يقتل الخيال الذي تعيش عليه؟!

فالمعرفة – حسب قناعاتك- جدار صخري! من الحماقة نطحه، والاصطدام به!

بينما الجهل يجعل أشباهكَ، ومن على شاكلتكَ ينتقل من بقعة رمادية إلى أخرى أكثر ضبابية وتمويه! وكل ما تعرفه، ما تشعر به تجاه إحساسك بمتعة الخيال!

لذلك لم تسألني منذ عرفتني شيئا عن هويتي.. ملامحي.. حقيقتي.. طبيعة عملي.. عمري.. تفاصيلي الصغيرة الواقعية التي لا تهمّك!

كما لا تهمّك كلمات الثناء الذي أخذ يتلفظ بها الطفل تصنّعا، أو تورطا في البحث عن معجم ملائم مع فخامة الحدث! وهو الذي لم تكتمل أسنانه بعد؛ فكيف بمعجمه ولغته!

ليمدّ يده مصافحا وضاغطاً على أصابع يديك لإثبات قوته ورجولته، ومردّدا:

 رمضان كريم!

 رمضان كريم!

هذا الفتى الصغير الذي لفظته الحياة.. وتركته يقابل دلّة شاي على طريق فرعي يقاوم الحرّ والعطش صائما ماسحا قطرات العرق على جبهته المشطوبة بجرح قديم غائر.. ليبيع الشاي المرّ، مستاءً من كلّ انتقاد لهذا المحلول المُسَمى "كرك" وكأنّ من ينتقده يصادر بضاعته.. ويقضي على حلمه في الثراء.. وعلى مشروعه في منافسة أكبر مقاهي الكرك في المدينة!

فتغادره هاربا من وجعك وحسرتك عليه، لتصلك رسالة أو قائمة جديدة من طلبات المنزل، وصورة لنوعية المياه المعدنية التي تشربها زوجتك؛ حتى لا تقترف جريمتك البشعة في شراء ماءٍ مليء بالصوديوم! أو من شركة قيل عنها أنّ مياهها إعادة تدوير لمياه المجاري! ودفعت ثمن تلك الإشاعة باهظا، حين قمت بإفراغ ما يزيد على العشرة كراتين من المياه في سقي أشجار المنزل، فمن غير اللّائق أن تتبرع بها كصدقة، وأنتَ تدرك – وفق الإشاعة- أنّها مياه مجاري في الأصل!!

أشعرتك هذه الذكرى بفتور في جسدك.. ولم تنتبه إلّا وأنت أمام البقالة عاجزا عن النزول من السيارة.. مربوط في شاشة الهاتف تترقب رسالة منّي.. وأشرتَ للعامل من بعيد بقنينة ماء فارغة، ثم فتحت أصابع يدك الخمسة.. ليحضر لك كراتين المياه المعدنية، ويطرق على صندوق السيارة؛ فتفتحها ثم تفتح النافذة لتناوله المبلغ.. ومائتي بيسة إكرامية له.. مما أثار امتعاضه، وزمّ شفتيه متسائلا بحنق:

 أين الثلاثمائة بيسة الباقية؟!

 لا أملكُ غيرها!

 عوّدتني أن تكون إكراميتك نصف ريال! لكن لا بأس.. رمضان كريم!!

فاعتذَرتَ منه كأنّكَ استحوذت على حقَّ من حقوقه! ونسيت أنّك صاحب المال ومن حقّك أنْ تعطي من تريد وما تشاء! نسيتَ ذلك.. وعُدْتَ إلى المنزل متذمرا.. غاضبا.. كأنّك فقدت خصلة من خصال النبل والشرف.. وأصبحت لصّا في نظر العامل المتبرم من سوء الأوضاع، ومن غشّ الآخرين.. ومنك!

وشاركتك زوجتك اللّوم والسخط وهي لم تعرف بعد أنّ محفظتك فرغت أثناء التسوّق، ولو عرفت أنّك تعطي العمال، وعابري السبيل مبالغ بسيطة من مصاريفك اليومية؛ لساومتكَ بأطفالك.. بعددهم.. متطلباتهم.. بالحليب والحفاظ وكل ما تظنّه ضروري وأساسي لتنمو أجسادهم.. وليس لتنمو أرواحهم!

ولن تقدر تضحيتك في التفريط بأشياء كثيرة.. في حقّك المشروع في القراءة.. في الثقافة.. وفي امتلاك الكتب.. وأن تكون قادرا على وضع مكتبة صغيرة دون خوف من امتداد يد أطفالك لتمزيق الكتب.. أو نظرات زوجتك المشمئزة لها.. عندما عقدت يديها.. ووقفت تتأمّلها باحتقار وغضب.. لتقول لك ساخطة من الحيّز الذي تشغله أسفل الدرج في مساحة لم تتجاوز نصف متر في متر وخمس وسبعون سم! بالضبط! لكنّها في نظرها مساحة تتلف خطط الديكور في المنزل، والأولى والأجدر أن تضع مكانها خزانة للأحذية!! كما شاهدت في منازل صديقاتها!! وظلّت شهرا كاملا تنّق على رأسك بشأن التخلص من المكتبة التي وضعت تحت الدرج! ولم تقترح لك مكانا آخر، فصالة الجلوس للجلوس.. والمجلس للجلوس أيضا! والغرف للنوم، والمطبخ للأكل! وعندما سألتها:

 أين أضع مكتبتي؟

قالت مقتنعة بما تقول:

 المكتبات موضة قديمة.. تتوافر الكتب الآن في المواقع الالكترونية، وبإمكانك تنسيق مكتبتك الخاصّة في هاتفك!

وظلّت شهرا كاملا تفتعل قصصا للعراك.. وتصعّد الأمور حتى وصلِتْ إلى قمّة غضبها تجاه المكتبة، فركلتها وأفرغت حمولتها! على غير عادة الزوجات الغاضبات اللواتي يفرغن غضبهن في خزانة الملابس!

لذلك وقفت أمام المكتبة، وقالت بلغة حازمة وبطريقة تقلد فيها إحدى مشهورات التربية النفسية، وهي تلقي الكتب واحدا تلو الآخر أمام عينيك! وبدأت بالكتب التي أهديتُكَ إياها:

 هذه الكتب تدمر الأخلاق!

 وهذه تفسد العقيدة!

  وهذه للمجانين!

 وهذه للمراهقين!

ولم تكن تفهم شيئا من محتواها.. بل حكمت عليها من الغلاف، والرسم الخارجي!

رغم ذلك لم تقم بردعها.. لم تزجرها.. ولم ترشقها بنظرة غاضبة كتلك التي كنت ترشق بها أصدقاءك وأقرانك وزملاء العمل.. الذين يخافون من إثارة غضبك خوف العواقب، واكتفيت بعبارة واحدة:

 رمضان كريم!

كنتَ خاوٍ.. خائف.. مذعور!

ليس لأنّ زوجتك التي لم تتجاوز المتر والنصف مخيفة.. ولا مرعبة.. بل لأنَكَ وصلت لدرجة من الخوف، والجبن والخذلان تثيرك الأصوات المرتفعة، يزعجك الضجيج، حتى عراك القطط على جدار منزلك يؤذي مشاعرك المهشمة؛ فتندّس مرعوبا في حضن أصغر أطفالك!

ويوما ما حاولت استعادة قواك..

وقفت لتصرخ مُتَحَدٍ مخاوفك.. فاكتشفت بأنّك لا تمتلك صوتا.. وبأنّك فعليا ميّت منذ أمد!

(النهاية)