تجارة المواد الغذائية.. أمن غذائي قومي

 

خليل بن عبدالله الخنجي

كان استيراد المواد الغذائية إلى البلاد يتم غالبًا من خلال المنافذ البحرية، وذلك بسبب موقع عُمان الجغرافي وحاجة الناس للمواد الغذائية الأساسية من حبوب وزيوت ومعلبات، إلى آخره من احتياجات البلاد، عبر الزمن الممتد لآلاف السنين، وبالمقابل كانت عُمان تصدر كثيرًا من المواد الغذائية التي تجود بها أرضها وبحرها من محاصيل التمور والبسور ومنتج اللبان الظفاري، الذي يصل إلى جميع القارات.

إضافة للخضراوات والفواكه والسمن البقري واللومي العُماني وأسماك السردين المجفف وحتى الأمبا فاكهة الصيف كانت تُصدَّر إلى دول الخليج العربي وإيران والعراق ودول الساحل الشرقي من أفريقيا مثل زنجبار ومومباسا وتنجانيقا والجزيرة الخضراء، إضافة إلى مومباي وكراتشي وكولومبو وكاليكوت وكوجرات وصولاً إلى دول الشرق الأدنى والأقصى كماليزيا وإندونيسيا وسيام وسنغافورة والصين، وذلك من خلال الموانئ البحرية التي تسمى في حينها الفرضة حيث تجني الحكومة جراء عملية الاستيراد والتصدير بحد سواء العشور وهي ضريبة 10 في المائة على الواردات من السلع والصادرات من خلال دائرة الجمارك.

كانت الواردات من المواد الغذائية تستقبل في البنادر؛ وهي مراكز المدن البحرية مثل مسقط ومطرح وصلالة وصور وصحار وبالتالي يشتريها تجار الجملة من الموردين لتوزيعها على التجزئة في جميع الولايات وهي سلسلة متناسقة من سلاسل الإمداد يستفيد منها الجميع تسودها ثقة تامة بين البائع والمشتري، وبالمقابل ينتج أصحاب المزارع محاصيلهم ويبيعونها لتجار الجملة وهم بدورهم يبيعونها إلى المصدرين من أجل بيعها في الدول المستهدفة في توازن عام بين الواردات والصادرات العُمانية.

وفي العهد الذي بزغ في عام 1970 ومع بدايات تصدير النفط العُماني في1967أصبحت الحاجة لبناء موانئ بحرية ومطارات وشوارع سريعة لترتبط عُمان مع الدول الأخرى من خلال البر والبحر والجو لتضاف واردات وصادرات عُمان عبر منافذ جوية وبرية بعد أن تمَّ بناء ميناء مطرح الذي سمي لاحقًا ميناء قابوس ومن ثم ميناء السلطان قابوس وبالتوازي تم إنشاء مطار السيب الدولي الذي سمي لاحقًا مطار مسقط الدولي.

كان النَّاس يعتمدون في شراء احتياجاتهم على دكان الحارة أو السوق المجاور حتى أتت فكرة إنشاء أول جمعية تعاونية بمطرح في أواخر 1970؛ حيث تمَّ نقل تجربتها من الدول الخليجية ومن دولة الكويت خاصةً التي تقدمت على نظيراتها في مجالات كثيرة؛ منها تجربة الجمعيات التعاونية، ولكن مع الأسف لم تنجح التجربة بسبب عدم الدراية في الإدارة وعدم الاختصاص وقلة العاملين المتخصصين من أهل البلد، وبذلك فشلت أول تجربة لإقامة جمعيات تعاونية لبيع المواد الغذائية ساهم فيها كثير من التجار والمواطنين الذين خسروا كل أموالهم المستثمرة في تلك التعاونية. تبع ذلك إنشاء هيئة التسويق الزراعي؛ وهي بمثابة جمعية تعاونية حكومية لتجميع المنتجات الزراعية من أصحاب المزارع وتسويقها في كثير من المحافظات، وكذلك أغلقت هذه الهيئة بسبب خروجها عمّا رُسم لها من تخصص عندما اتجهت إلى استيراد الخضار والفواكه من الخارج وبيعها من خلال منافذ الهيئة؛ لذلك تمَّ أخذ قرار بإغلاقها بدلًا عن إعادة انتشالها. وهناك عدة تجارب فردية وثنائية لإقامة محلات كبرى من قبل الشركات العُمانية مثل برادات مطرح وبرادات صلاح والريف والفير وبرادات سلطان ومحلات ولوه في القرم وكيمجيز الذي يطلق عليه سپار حاليًا وتجارب أخرى لا يتسع المجال لذكرها أغلبها لم يكتب لها النجاح خاصة مع دخول الهايبرماركتات الكبرى من خارج الحدود مثل مركز سلطان وكارفور واللولو وأخيرًا نستو وغيرهم.

وفي عام 2001، أقيمت أول ندوة لتشغيل القوى العاملة الوطنية على مرحلتين الأولى بسيح الطيبات بولاية صحم، والثانية بسيح المسرات بولاية عبري؛ حيث جاءت إحدى التوصيات بتعمين تجارة التجزئة للمواد الغذائية، وقد تم التوصل إلى هذا القرار بناءً على ما جاء في بيان وزارة التجارة والصناعة بوجود قرابة 30 ألف سجل تجاري للمواد الغذائية، إثر ذلك تم إجراء مسح كامل للسوق العُماني لتلك السجلات؛ حيث تبين أن 10 آلاف منها نشطة. وعلى ضوء القرار، وضع برنامج تنفيذي لإنجاز ذلك بدءًا بتعمين محلات بيع المواد الغذائية في أربع ولايات وهي نزوى ونخل والرستاق وقريات، واستمر تنفيذ هذا البرنامج خلال عدة سنوات صاحبه تنفيذ مجموعة من البرامج المساندة لتدريب الباعة والملاك لهذه البقالات مثل المحاسبة وكيفية ترتيب المواد داخل المحل والتسويق حتى اكتمال التعمين في جميع الولايات.

لا شك أنَّه كانت هناك تحديات في إنجاز ذلك البرنامج الوطني، تبعته بعض الضغوط من المواطنين يطلبون فيه عددًا من العمالة الأجنبية المساعدة، وبذلك سُمح للمحلات التي تزيد مساحتها عن المائتي متر مربع بجلب عمالة أجنبية، فعدنا الى المربع الأول؛ حيث تخلى كثير من المواطنين عن تفرغهم لبقالاتهم ومحلاتهم التي كانت بمثابة أنوية لجمعيات تعاونية تدار بأيدٍ وطنية. وما زاد الطين بلة أنه عندما انتشرت المحلات الكبرى للمواد الغذائية داخل الأحياء السكنية تبعتها إقامة الهايبرماركت في كل ولاية قريبة من الأحياء السكنية، وتم إغلاق عدد 4 آلاف محل للمواد الغذائية كان يديرها عُمانيون بعضهم تفرغوا لهذا العمل وآخرون بالعمل الجزئي.

في السنوات الأخيرة، جرت محاولات لإقامة جمعيات تعاونية، وبالفعل بدأت بعض الجمعيات في بعض الولايات نتمنى لها النجاح، لكن بوجهة نظري سوف تواجه منافسة كبيرة من المحلات الكبيرة المنتشرة التي لديها ميزة الشراء الجماعي الكبير لسبب معروف، ألا وهو أن لديهم حضور في جميع دول مجلس التعاون؛ بل في الدول العربية والهند، لذلك يجب مساعدة تلك الجمعيات الحديثة التأسيس من عدة نواحٍ؛ منها تنظيم مواعيد العمل لكل فئة من المحلات بحيث يسمح للمحلات الكبيرة الهايبرماركت العمل بحد أقصى حتى الساعة العاشرة مساءً حالها حال المجمعات التجارية الكبرى؛ وذلك لإعطاء الفرصة للمحلات الصغيرة والمتوسطة لتقديم خدماتها للمستهلكين على مدار الساعة، وكذلك تشجيع المحلات الكبرى المعروفة بطرح جزء من أسهمها في بورصة مسقط، ويجب على الجهات المعنية دراسة زحف المراكز الكبيرة إلى وسط المدينة والحد من انتشارها ووضع شروط جديدة أسوةً بالدول المتقدمة في هذا الشأن؛ حمايةً لما تبقى من منافذ بيع المواد الغذائية الصغيرة والمتوسطة التي يحتاجها المجتمع المحلي. وبهذه الطريقة سوف يتشجع كثير من المواطنين لإنشاء جمعيات تعاونية فيما بينهم، ولكن بشرط أن يتميزوا بنوع من الحمائية وبعض الدعم الخاص من الجهات الحكومية وسرعة إيجاد حلول لتحدياتهم ومشاكلهم، وذلك للحاجة الملحة لضرورة استحواذ المواطنين على نسبة لا تقل عن 50 في المائة من تجارة التجزئة للمواد الغذائية في السوق العُماني تأمينًا لمتطلبات الأمن الغذائي القومي.

** الرئيس الأسبق لغرفة تجارة وصناعة عُمان