تهاوي الشعارات

 

د. صالح الفهدي

أثار احتجاج فرنسا على الرسم الكاريكتوري الذي نشرته السفارة الروسية استغراباً واسعاً رغم أنه رمزَ إلى أوروبا بأكملها كإنسانٍ مريضٍ يحقنه الطبيب الأمريكي وحلف الناتو بإبرِ الكراهية والفوبيا من روسيا، ومثار الاستغراب هو التناقضات الفرنسية التي ناصرت فيها رسومات صحيفة "شارلي إبدو" الفرنسية التي أساءت فيها للمسلمين، حينها ناصر الرئيس الفرنسي حرية الرأي والتعبير في دولته، أما حين نشرت السفارة الروسية الرسوم فإذا بالذي ناصر بالأمس"حرية التعبير" يستصرخ اليوم العالم المتحضر بأنَّ ذلك غير مقبول..!!

لقد سبق لفرنسا أن حاكمت روجيه جارودي بتهمة معاداة السامية حين شكَّك بمحرقة اليهود، وهذه التي تنتصبُ في دفاعها عن حرية التعبير تحاكم كل من يشكك في رواية اليهود عن غرف الغاز، ومخيمات التعذيب، لكنها لا تدافع عن الفلسطينيين إزاء التنكيل والتعذيب والاحتلال الإسرائيلي!!

شعاراتُ الغربِ تتهاوى في دفاعها عن أُوكرانيا، ونحنُ هنا لسنا مع الحرب، وتشريد الأبرياء، وتدمير الأوطان، ولكننا نثبتُ أن الشعارات التي رفعها الغرب، قد ظهرت مجرَّد أوراق بلَّلها زيفُ الإدعاءات الغربية ورفعت لأجلها شعارات "العالم المتحضر" لكنها بدت بين ليلة وأُخرى انتقائية لا تواري الوجه العنصري فيها.

فشعار سيادة الدول الذي رفعه الغربُ وهي تنتقدُ الغزو الأمريكي لأوكرانيا قد تهاوى بعد أن أثبتَ أن الغرب يكيلُ بمكيالين في نظرته نحو سيادة الدول، فهو يستبيح الدول التي يريدُ استباحتها كما يريد، ولا يُلقي بالاً بسيادةِ دولة معترفٍ بها في الأُمم المتحدة كدولةٍ ذات سيادة، لها نظامها، وشعبها وأرضها وقانونها، لكن حين قامت الحرب الروسية الأوكرانية انتقد الغرب تجاوز روسيا على سيادة الدولة الأُوكرانية، وهل الدول الأخرى التي تجاوز الغرب سيادتها جزر الموز حتى يتيح لنفسها إذلال سيادتها، وتكسيرِ كبريائها؟! ها هو بوريس جونسون رئيس وزراء بريطانيا الذي يبدو ملكًا أكثر من الملكةِ يستشيطُ غضبًا وهو يتحدث عن انتهاك سيادة أُوكرانيا، ناسيًا أن بلاده هي من أعطت لليهود وطناً بأكمله في وعد بلفور!

الصحفي والمذيع البريطاني الشهير "بيتر أوبورن" وصف الغرب بالنفاق، فإدانة حرب روسيا على أوكرانيا ووصفها بالوحشية تتطلب في الوقت نفسه– كما يقول- إدانة كل أشكال العدوان على الشعوب ورفض انتهاك حقوقها في الحرية والديمقراطية.

تهاوى شعار "انتهاك القانون الدولي" الذي رفعه الغرب في وجهِ روسيا حين دخلت جيوشها الأراضي الأُوكرانية، متجاهلاً أن العالم يذكر انتهاكات أمريكا للقانون الدولي من أجل غزو العراق بحججٍ كاذبة، ضاربة بالأُمم المتحدة وقوانينها، واعتراضات الدول عرض الحائط، واليوم تتحدَّث عن انتهاك روسيا للقانون الدولي، فبأي حديث يتقوَّلون؟!

شعار "حقوق الإِنسان" هو الآخر قد تهاوى فاللاجئون الأُوكرانيون هم من ذوي البَشرة البيضاء، والشعر الأشقر، وأوكرانيا دولة أوروبية متحضرة ليست مثل العراق وسوريا كما تقول قناة "سي بي إس" الأمريكية، لهذا فإن حقوق الغرب "الإنسانية" يجب أن تساندهم وتحميهم، وتقف إلى جانبهم، أمَّا غيرهم وعلى رأسهم الفلسطينيون الذين انتهك وطنهم، وشرِّدوا في كلِّ بقاعِ الأرض ودمرت بيوتهم وحقولهم، وزجَّ شبابهم في السجون الإسرائيلية كأنما هم ليسوا بشراً – في نظر الغرب- ليستحقوا حديث العالم عن حقوقهم وكرامتهم كبشر، وإنصافهم كمواطنين.

ولم يكن حديث بايدن عن ضرورة زوال بوتين عن نظام الحكم في روسيا مجرد زلة لسان أو تأثراً بما فعله الرئيس الروسي في أوكرانيا حسب وصف البيت الأبيض، وإنما عبَّر بصدق عن عمق الرغبة الغربية في تغيير أنظمة الحكم، والتاريخ شاهدٌ على ذلك فكم من حاكم لا يتوافق مع السياسة الأمريكية والأوروبية قد تم اقتلاعه وتدبير الانقلاب عليه..! إذن فشعار "عدم تغيير أنظمة الحكم" قد تهاوى هو الآخر.

رفع الغرب شعار التعدي الروسي على أُوكرانيا رغم أنه يُدرك تماماً أن توسع الناتو شرقاً يهدد الأمن الإستراتيجي لروسيا، لكنه استنكر على روسيا أن تحمي أمنها في حين أن أمريكا نفسها اعترضت على نشر الإتحاد السوفيتي للصواريخ في كوبا عام 1962 لأن الأراضي الأمريكية تقع في مرمى هذه الصواريخ.

شعارٌ آخر يرفعه الغرب، خاصَّة أمريكا وهو حماية العالم من الأوبئة والفيروسات التي كان آخرها فيروس كورونا الذي شلَّ اقتصاد العالم وحركته، وفتك بأعداد كبيرةٍ من البشر، في حين أوضحت المختبرات البيولوجية في أوكرانيا– وفي مناطق مختلفة من العالم– أن ذلك كان مجرَّد شعارٍ ترفعهُ أمريكا، بينما الحقيقة هي أنها تصنِّعُ أسلحة فتَّاكةً محرَّمة دولياً التي رُفعت الشعارات المحرِّمة لاستخداماتها.

ها نحنُ إذن أمام شعارات تتهاوى كشفتها الحرب الروسية الأوكرانية لتثبت أن للسياسة وجهان، الأول ظاهر يدَّعي الإنسانية، والثاني مخفيٌّ يضمرُ الشرَّ، أما الحقيقة فهي – كما يقال- ضالَّةُ الحروب، يقول الكاتب سليمان صالح في مقالته " حرب روسيا على أوكرانيا.. ما لم نعرفه من قبل عن النفاق الغربي" ما نصه: "إن قوة المبادئ تتجلى في تطبيقها على الجميع دون تمييز، والغرب يضعف تلك المبادئ عندما يطبقها بشكل متحيز وطبقا لمصالحه".