التاريخ.. المرونة والانضباط!

 

يوسف عوض العازمي

alzmi1969@

 

"إن التاريخ في ظاهره لا يزيد عن الإخبار، ولكن في باطنه نظر وتحقيق". ابن خلدون.

*******

من أهم الصفات المطلوبة في الباحث التاريخي هي الانضباط والموضوعية، من حيث الثقة بالمعلومة وضبطها زمانا ومكانا وربطها الغير قابل للشك بعناصر الحدث، ويعتمد ماسبق على قواعد قياسية لايمكن التهاون بها اوحولها، وهي المصداقية والحصافة ورجاحةالعقل والإتزان الفكري في تقييم المعطيات الواردة في الحدث قيد التأريخ، مما يجعل الورقة البحثية أوالعمل المبحوث وفق المنهج التاريخي المعتمد منطقيا؛ حيث تختلف المدارس البحثية التاريخية، إنما تبقى القواعد الأساسية المتوافق عليها ومنها تنطلق الاجتهادات.

هناك من يعتقد ان المرونة مهمة في كتابة التاريخ، والحقيقة أن المرونة لها صفات جيدة لكنها قطعا ليست بالضيف المرحب به في علم التاريخ، لأن المرونه قد تفقد التأريخ المحتاج إنضباطا توازنه وتماسكه، قد تخل بميزان المصداقية الهام، لأن تأريخ الحدث لايقبل القسمة على أثنين، اومرر هذه وأترك هذا، لايمكن التلاعب بعناصر الحدث بدعوى المرونة، هنا قد تدخل خيبة الكذب من اوسع الابواب، وهي كذب وأن تزينت بمفردات فضفاضة كالمرونة!

ثمة اجتهادات مقدرة ويؤخذ منها ويعطى، لكنها في حدود القواعد المهنية البحثية، هي خصلة أخلاقية صرفه قبل ان تتحدث عن بحث علمي أو تأريخ؛ أي أن القاعدة الرئيسية المنطلق منها هي المصداقية وإن إختلفت صورها وفق الاجتهادات، إن يبدأ أي اجتهاد من هذه القاعدة، ويبين المؤرخ التحليل بمعناه وتوقيته ومكانه في الورقة البحثية أو الكتاب، لا أن يخلط التأريخ المنقول بالتحليل مما يخل بتوازن القطعة المكتوبة ويدخلها في تبعات منها ولاشك التشكيك في نوايا الكاتب اوالباحث لتمرير امور تخالف المنطق المنطلق من القاعدة الرئيسية ( المصداقية )، لذلك النقل له مكانه على الورق وتوقيته اثناء البحث، والتحليل المقدر والمحترمة نتائجه لها مكانتها، أما الخلط مابينهما بحجة المرونة فهو إخلال غير مقبول ويضر بمصداقية البحث  لأن النقل غير والرأي غير، النقل يفترض لانقاش حوله لأنه وقع وانتهى امره، إنما النقاش والجدل والتحليل قد يدور حول النقل وهو الذي ممكن فيه الإتفاق والإختلاف

توجد نقطة مهمة جدا قبل قراءة الحدث المنقول اوالتحليل المجتهد به، وهو ماهيته الباحث اوالمؤرخ، من زكاه وتقبل منه البحث، هل هو باحث علمي تدرج في مؤسسات بحثية كالجامعات ووصل لدرجة علمية تزكيه وتؤهله للكتابة الموثوقة، أم هو باحث لايملك شهادة علمية أو مؤهل أكاديمي يحقق له التزكية المطلوبة؟

بالطبع المؤرخون القدامى لم يملكوا حتى الشهادة الإبتدائية (أقصد بمراحلنا الدراسية المعاصرة)، لكنهم تمكنوا من فرض أبحاثهم بقوة المنطق والمصداقية والموضوعية، وتزكية العلماء وقتذاك؛ حيث كان التبصر بعلم الرجال والجرح والتعديل في المعلومات المدونة، والناس وقتها تعرف من الكاتب وسيرته ومعرفته واجتهاداته، وهو مايغني عن أعلى درجة علمية بوقتنا الحاضر، فهل الطبري أوالبلاذري أو ابن جني أو حتى ابن خلدون يملكون شهادة إبتدائية أو متوسطة، بالطبع لا لكنهم يملكون العلم الموثوق الذي خلد أعمالهم وجعلها توثق وتدرس بأعلى الجامعات الأكاديمية حتى وقتنا هذا.

لكننا أيضا نقف أمام أمر آخر خاصة في وقتنا الحاضر، وقت الشهادات الأكاديمية التي أصبحت كالسلاح المحارب به وسط غبار الحياة وزوابعها وعجاجها الكثيف المعيق للرؤية، لا تستغرب إن وجدت من يحمل مؤهلا في القانون يقوم بعمل أبحاث تاريخية ويؤلف كتبا كذلك، ولاغبار على مصداقيته، كذلك تجد من يحمل شهادة في العلوم التجريبية ويقدم بحثا تاريخيا مرموقا، هل نطعن بصحة جهود هؤلاء؟

بالطبع لا يمكن، ما دام العمل وفق القواعد الموضوعية، والتاريخ بالذات، يجوز لاي إنسان العمل به، فالطبيب يحتاج التاريخ الصحي للمريض، والمحقق الجنائي يحتاح سجل سوابق للمتهم، وقس على ذلك كافة مناحي الحياة، لذلك علم التاريخ جامع ومتداخل في كل العلوم حتى علوم الذرة والفضاء، كل شيء يدون ويؤرخ هو تاريخ.

لكن يتميز المختص بعلم التاريخ بامتلاكه الأدوات اللازمة لعبور البحث لبر الأمان، لأنه درس التاريخ وحيثياته والتعامل معه بحثيا وتوثيقا وتحليلا وضبطا وربطا وهو الذي من الصعب توافره لدى أية هاوٍ للتاريخ، وقد لاتكون عبارة : أعط الخبز لخبازه قاطعة في علم التاريخ، لأنه علم يدخل كافة مناحي الحياة ودقائقها، لكنها قد يؤخذ بها في حال طلبت الحصافة الدقيقة للنقل والتحليل ووضع المعلومة قيد البحث، هنا تحتاج باحث مؤهل يستحسن أن يزكى بذلك كحامل مؤهل علمي عالٍ بالتاريخ.

هناك من يعتبر كتب التراجم شيئَا من التاريخ واتفق معه، وهناك من يرى في الروايات الأدبية ملامح التاريخ واتفق معه، حتى الأشعار والقصائد بها من التاريخ، كل شيء مهم محرك للحدث ومؤثر في حياة الناس هو بالتأكيد تاريخا يستحق التدوين وربما التخليد، حتى حياة الإنسان الشخصية هي تاريخه الشخصي الذي يحفظه ويحفظه ذويه واصدقاءه وحتى أعداءه.

التاريخ هو كل شيء بالحياة، يبدأ مع صيحة الحياة الأولى وينتهي مع غمضة العين الأخيرة.