هل بدأ الدولار يفقد عرشه؟

 

علي الرئيسي

 

في الستينيات من القرن الماضي اشتكى وقتها وزير المالية الفرنسي جيسكار ديستان من أنَّ هيمنة الدولار على المعاملات المالية يمنح الولايات المتحدة ميزة عظيمة، وذلك بالاقتراض من العالم بثمن بخس والعيش ببذخ بالغ، لكن هذه الميزة العظيمة، وبناءً على تحليل بعض الاقتصاديين، تفرض على الولايات المتحدة عبئًا أيضًا؛ حيث يؤثر ذلك على منافسة أمريكا في التبادل التجاري وكذلك على التوظيف، ولا سيما مع تراجع حصة أمريكا في الاقتصاد العالمي.

وهيمنة الدولار حسب  مجلة "Foreign Affairs" تستفيد منها المؤسسات المالية الأمريكية والشركات الكبيرة، بينما تكون المعاناة عادة من نصيب العمال؛ لذلك هيمنة الدولار تؤدي إلى تعميق عدم المساواة وإلى مزيد من الاستقطاب السياسي الداخلي في الولايات المتحدة. فأكبر رابح من هيمنة الدولار هو البنوك الأمريكية التي تستفيد من وضعها كوسيط، ومستفيد من التدفقات المالية، ومهيمن على السياسات المالية والاقتصادية في أمريكا. إضافة  إلى أنَّ أسواق المال والنقد الأمريكية ما زالت حتى الآن الأكبر والأكثر سيولة. وهيمنة الدولار وقوته تضعف القوة التنافسية للصادرات الأمريكية مما يضطر الشركات الكبيرة لنقل مصانعها للخارج مما يضاعف من نسب البطالة، وتدني مداخيل الطبقة العاملة في أمريكا.

ويُرجَّح أنَّ هيمنة الدولار في العالم تعزى أساسًا إلى الطلب العالمي، وإلى التدفقات الأجنبية إلى الولايات المتحدة للاعتقاد السائد بأنها البلد الأكثر أمنًا لرؤوس الأموال، ولعدم وجود- فعلًا- بدائل منافسة. وتعود  قوة وهيمنة الدولار إلى أن كثيرًا من دول العالم تحتفظ باحتياطيات كبيرة بالدولار؛ كالصين مثلا التي  تتجاوز احتياطاتها أكثر من تريليون دولار، هذا إضافة إلى عدد من الدول الآسيوية مثل اليابان وكذلك الدول النفطية، وروسيا. وهذه التدفقات طبعًا مهمة لتمويل التجارة؛ لذلك تؤدي دائمًا إلى أن الحساب الجاري في أمريكا في حالة عجز دائم. أمريكا تستفيد من هذه التدفقات لتمويل عجوزاتها المالية ولتعيش خارج قدراتها المالية الذاتية.

منذ سنوات والمراقبون يزعمون أن الصين وعدد من الدول الأخرى كروسيا، والهند، وإيران، قد تقرر التخلي عن الدولار والقيام بتنويع احتياطاتها وذلك لأسباب اقتصادية أو استراتيجية، وخاصة في ضوء تعاظم استخدام أمريكا للدولار كسلاح اقتصادي عن طريق فرض العقوبات الأحادية. غير أنه من المُستبعد حتى الآن الاعتقاد بأن الطلب العالمي على الدولار في حالة انحدار.

لكن هناك عدة معطيات يجب النظر إليها، ومنها: الحرب في أوكرانيا وقيام أمريكا والدول الغربية بتجميد الاحتياطيات الروسية، وفرض حظر اقتصادي شامل عليها، وتجميد عضوية بعض البنوك الروسية في نظام "سويفت" الهيئة المعنية بالتحويلات بين البنوك. وطلب روسيا بأن يتم الدفع لمشتريات الغاز والنفط الروسي عن طريق عملتها الروبل، وأيضًا الأخبار غير المؤكدة عن دراسة المملكة العربية السعودية تسديد شراء الصين من النفط السعودي باليوان الصيني. وقيام الصين بدراسات جدية حول سعر صرفها، والعمل مستقبلاً على فك ارتباط عملتها بسلة عملات وتقرير قيمة العملة الصينية عن طريق استهداف التضخم. وقد سمحت الصين مؤخرا للمؤسسات الأجنبية بالاستثمار في السندات باليوان. كل هذه الإجراءات- وإن كان من المبكر معرفة نتائجها- فإنها ستؤدي الى إضعاف هيمنة الدولار على نظام المدفوعات العالمي.

إن تراجع هيمنة الدولار قد يؤثر سلبًا على قدرة الولايات المتحدة على تمويل عجز المالية، وعجز الحساب الجاري وخاصة بعد أن تجاوز الدين العام في أمريكا أكثر  من  120% من الناتج المحلي الإجمالي. وما يسمى بـ"البترودولار" أي عائدات بيع النفط، فقد لعبت دورا محوريا في هيمنة الدولار وهيمنة النظام المصرفي الأمريكي، او ما يُسمى بالعولمة المالية، وخاصة بعد فك ارتباط الدولار بالذهب من قبل الرئيس ريتشارد نيكسون  في بداية السبعينيات من القرن الماضي.

وإذا صحت الأنباء بأن المملكة العربية السعودية ستقوم فعلا بتسعير نفطها بغير الدولار كإجراء استراتيجي، وليس كرد فعل فقط، فإنَّ ذلك سيعجّل من تراجع هيمنة الدولار على نظام المدفوعات وكعملة أولى للاحتياطيات العالمية. والاستخدام المفرط للعقوبات الاقتصادية والمالية من قبل الغرب وبالذات أمريكا دون أن يكون هناك اتفاق أو تفويض دولي، سيقوض من ثقة الدول بالنظام المالي الدولي ونظام المدفوعات، وهذا سيقوض من عولمة الاقتصاد العالمي مما سيخفض من فرص النمو، وزيادة معدلات البطالة والفقر في العالم، وسيُعيق التبادل التجاري السلس، مما سيفرض على العالم خلق بدائل للدولار كعملة للاحتياطيات والمدفوعات.

العالم يواجه تحديات كبيرة من جراء جائحة كورونا، والتغير المناخي، والنقص الحاد في الطعام والمياه، وهو في أمس الحاجة للتعاون الدولي عوضًا عن الحروب، سواء كانت عسكرية أو اقتصادية. أضف إلى ذلك احتمالية مواجهة حرب نووية.

هنا يمكن لنا أن نستعيد ما قاله الفيلسوف الألماني العظيم هيجل في "فيمنولوجيا الروح"؛ حيث يوضح هيجل في ديالتيك (جدلية) "السيد والعبد"، وهما بوعي ذاتي يخوضان معركة حياة أو موت، وأن كل منهما مستعد للمخاطرة بحياته للانتصار؛ حيث يضيف أنه إذا استمر كل منهما في القتال فإنَّ الرابح لن يجد أحدًا يعترف بنصره.

باحث في قضايا الاقتصاد والتنمية