يوسف عوض العازمي
@alzmi1969
"التاريخ.. إعادة رسم الأمكنة والأزمان التي مرت.. تعزيز ذاكرة الأجيال الجديدة". عبد الرحمن منيف
****
في كتابة التاريخ هناك من يعتبره تدوينًا لقصص وروايات للتسلية، ووفقًا لهذا المفهوم بإمكان أي شخص أيًا كان يكون كاتبًا للتاريخ، بالتأكيد هذا جهل فاضح بمفهوم التاريخ الحقيقي الذي هو تفاعل بين الزمان والمكان والإنسان، سياق زمني حدثت به أحداث أثرت وبعضها مايزال مؤثرا على الحياة، ونقاط كثيرة لاتحصى تؤكد هذا الأمر، لذلك امتطاء صهوة التاريخ لايستطيعه كل من يحمل السيف "القلم"؛ بل المؤهل القادر الجازم؛ لأن التاريخ ليس مركبا للعامة يدور بهم بأنحاء المدينة لغرض التسلية، بل مجالس علم وسياسة وحكمة لاستنباط الفكر والعبرة والعظة ونبراس للنظر البعيد، الأذكياء فقط هم من يعرف أهمية معنى التاريخ.
هل كتابة التاريخ تأتي وفقًا لانفعالات المؤرخ أو سلوكياته، أو حتى عواطفه ورغباته؟ هل المناكفات البينية والتواطؤ يؤثران على كتابة التاريخ؟ نعم وهناك أمثلة لا يتسع المقال لذكرها. مقتضيات المناكفات عندما تجد شاعرا مفوها يمتدح فلانا بما ليس فيه، من أجل حاجة أو صرة من النقود، هو يكتب تاريخا من خلال الشعر دونما وعي منه، هنا خطورة الاستناد على بعض الأشعار، وهو تواطؤ بين الشاعر والمستفيد لتزييف حقائق قد تؤثر فيما بعد على سياقات قريبة زمنيا، ولو تمعنا بذلك لربما نسفنا كثيرا من الروايات التاريخية المعتمدة مصادرها على الشعر، فلسفة الشك ستكون حاضرة، لكن من سيستضيفها؟ وكيف؟
هل هناك فارق بين كُتّاب التاريخ؟ كأن الكاتب العربي تختلف كتابته عن كتابة الأعجمي؟ أو كتابة الرجل تغاير كتابة المرأة؟ ولو تفكرنا في عصرنا الحالي فقد ندخل في مقارنة كاتب التاريخ بحسب مؤهله الأكاديمي، هل يحمل شهادة كالثانوية العامة أو أقل ومقارنته بمن يحمل مؤهلا تخصصيا أكاديميا عاليا في التاريخ، تساؤلات تأخذنا لمناطق من الحذر، ودروب من التحفظ، وشواطئ تسبح بها تهيؤات النقاد والقراء المهتمين. بالطبع لا علاقة للمؤهل العلمي للمؤرخ بجودة كتابته للتاريخ، الأهم المصداقية والأمانة.
أحد الأحبة يقول: الشهادة العلمية هي منهج علمي متبع لتنمية مهارة الطالب وكسبه أدوات تساعده على الانطلاق والتطور في رحلة الإنسان، ولكن ليست هي الأساس، وإلا كيف برع من سطر شواهد علمية وتاريخية منذ سالف الأزمان إلى مستقبل زماننا وهو لم يتخرج في كليه ولم يتطرز اسمه بلقب دكتور أو بروفيسور، لقد تخلدت أسماء كُتاب وكتب تطرقت للتاريخ بحيادية علمية مقبولة وكانت تحمل بين أسطرها أنفاس الصدق والتجرد، أم من كانت تحمل بين أسطرها أنفاس التدليس والتلبيس فذهب غثاؤها كزبد البحر وكان ثمن حبرها أغلى من ثمنها! (انتهى قوله).
قد يستغرب القارئ التطرق لهذا المفهوم، وفي الواقع لا أعلم ما الدافع لكتابة وطرق هذا الفهم، قد يكون دافع الكتابة عن الحذر والمحذورات في التاريخ هو المستفز للكتابة والبحث، إنما أعتقد أنَّ كتابة التاريخ حذرة في أي حال، سواء كتبه عربي أم أعجمي، امرأة كانت أم رجلا، وتبقى الصياغة للمكتوب واعتمادها الوصفي إن كان حسيا أو معنويا، هي الفارق والمقارن به.
قد يجاوبني من يقول إنَّ المعنى لا يتعلق بكتابة التاريخ سواء أكتبته امرأة أم رجل، وأن المقصود شي آخر، فلربما أفهم أنَّ المعنى في بطن الشاعر، وإن علقت على ظاهر المعنى!
هنا نتوقف عند باطن وظاهر المعنى، الذي سيقودنا ذلك للولوج في الغيبيات، ومناكفات الشعر والشعراء؛ حيث الفن الذي أشتهر ببواطن المعنى المدفونة وسط أكوام المفردات، لكن هل المؤرخ يتأثر بالشعر، نعم يتأثر؛ بل إن الشعر أحيانا هو مصدر وربما مرجع للتاريخ، وأزيدك من الشعر بيتا، فمابالك والمؤرخ يقرض الشعر؟
سيكون الأمر تزاوجًا متجانسًا بين الشعر والتاريخ!
لو سألت المؤرخ العربي عن إجادته وحياديته، ونفس السؤال للأعجمي ستجد الاعتزاز، لا أظن أن هناك من المؤرخين من سينتقد نفسه، سيكون صخب المصداقية المزعومة هو المسيطر، والمعلوم أن مصداقية المؤرخ هي رأس المال.
لو تحدثت عن المؤرخ كرجل سيستمد مصداقيته كون جُل المؤرخين رجال، وأن الرجل له قوامة، ومن هذه القوامة يشير لمصداقيته، إنما وفي عصرنا المعاصر هل هناك مانع مثلا لو وجدت امرأة تؤرخ وتوثق وتكتب التاريخ؟
أقسام التاريخ بالجامعات تشهد مئات- وربما- الآلاف من النساء اللاتي عملن بمجال التاريخ والأمثلة كثيرة، والمقام لا يتسع للأسماء، والمرأة المؤرخة منطقيًا لم تصل للمكانة إلا لأنها قوية وواثقة وطموحة، فهي قد تكتب تاريخها، كناية عن وجود هدف وطموح وإرادة، لذا فعلا يجب الحذر من هذه العقلية، أي أن عليك أن تحسب ألف حساب قبل الإيذاء أو الكيد لامرأة بهذه القوة، هل هذه هي الرسالة؟
قد ألاحظ زخم الاضطراب في ما سبق، فهل في ذلك نرجسية أم ثقة فارهة؟!
لكن للثقة أبواب، ولها مداخل، إنما ليس من الحصافة استخدامها دومًا، أحيانًا الانزواء جانبًا أفضل ودرءًا لأي أمور قد يصبح التعامل معها مضيعة للوقت، وهناك أمور لا تستحق مجرد التفكير فيها، فما بالك بالتعامل معها! وللتاريخ أبوابه الواسعة والضيقة، والمليء والفارغ، وما يستحق الذكر وما لا يستحق!
تاريخنا الشخصي قد لا يتسامح، هل ينعكس تاريخنا الشخصي على كتابتنا للتاريخ؟ هل المقصود سيرة ذاتية أم كتابة حصيفة للتاريخ لاترتبط بنوازعنا الإنسانية وتفاصيلها؟
كتبت كثيرًا عن خطورة أن تكون مؤرخًا أمينًا نزيهًا، ستكون المطلوب رقم واحد في كل مكان، حيًا أو ميتًا، وأتساءل هل بإمكان أي أمّة أن تكتب تاريخها الحقيقي، بنزواته قبل وقاره، بصخبه قبل الهدوء، بتشدده قبل الاعتدال، بمصداقيته قبل الكذب والتزييف؟! أعتقد أنني قد أحدثك عن مكان ما في كوكب آخر، من كان منِّا بلا خطيئة فليرمها بحجر!
عندما تصبح مؤرخًا فسلاحك هو المصداقية التي تتوخى الحذر قبل النقل، والتفكر قبل التحليل، والتدقيق قبل الكتابة، وستواجهك وتتواجه مع عوائق، وعراقيل، ومنغصات، لكن المؤرخ الحقيقي هو الذي تلزم مصداقيته القارئ لاحترامه، وإن أخطأ لأنَّ الخطأ خصلة إنسانية، ونعرف أن هناك الخطأ اللا مقصود، وهو الذي تأتي الكلمات معه وتذهب، والخطيئة التي تقدم الخطأ المقصود!
المؤرخ صراعه الحقيقي مع الشبهات، وليس مع الأشخاص الزائلين؛ حيث يحلل ويدقق في الشبهات، ليستنبط حقيقة المعلومة وواقعها الفعلي، ويتجاهل أشخاصًا ليسوا إلا حجر عثرة بإمكانه تجاوزها بالقفز السريع فوقها!
هل وصلت الرسالة؟!