مسعود أحمد بيت سعيد
شكل ما سُمي بـ"الربيع العربي" محطة نوعية لدرجة يمكن القول إنَّ ما قبله ليس كما بعده، و ما زالت مفاعيله وتجلياته تتحرك صعودًا وهبوطًا، وكان من نتائجه على صعيد اليسار العربي إظهار ضعف مكوناته وعجزها التام عن التقاط اللحظة التاريخية في توظيف الظرف الموضوعي لجهة إحداث تغيير جدي في البني الطبقية لمصلحة الجماهير وعموم الكادحين والتي يدعي حصرية تمثيلها والتعبير عن تطلعاتها في التحرر الوطني والتقدم الاجتماعي طيلة عقود خلت.
وإذا كانت الأسباب الموضوعية قد حالت دون بروزه بالشكل المأمول، فإنَّ السبب الذاتي لم يكن خافيا في تظهير عجزه في تقديم البديل الشامل المنسجم مع تضحياته وبرامجه السياسية المُعلنة. ومن نافلة القول إن بعض تلك الأسباب قد أشير لها في أكثر من مكان على طول الوطن العربي وعرضه، مما يعفيني من تناولها تفصيلياً من كل الجوانب.
واليسار الخليجي جزء من اليسار العربي وامتداد تاريخي له وسيكون من المفيد استشراف آفاقه، وحتى نبدد بعض الأحلام والأوهام لدى خصومه الطبقيين والسياسيين الذين يشككون في وجوده أصلا؛ لخفوت صوته في ظل المنظومات التشريعية التي تحرمه من حق التواجد العلني في معظم بلدان الخليج. ومن الطبيعي أن تطرح التساؤلات حول حجمه وموقعه على الخارطة الاجتماعية والسياسية؟ ودون أن نخيب ظنهم لا يستطيع أحد تجاهل دوره والتقليل من تضحياته وإخلاصه وتميز خطابه الفكري والسياسي عبر المراحل السابقة بصرف النَّظر عن بعض الهفوات التي حدثت خلال مسيرته النضالية الطويلة.
لا شك كذلك في بنيوية أزمته وما لحق به من أمراض ككل اليسار في العالم بعد تفكك المنظومة الاشتراكية وانهيار التجربة الاشتراكية الأولى ودون إغفال حالة الحصار المحكم من كل الاتجاهات؛ فإن الاجتهادات السياسية والفكرية والتنظيمية قد أضعفت دوره وحجمت مكانته. واليوم تُثار الأسئلة حول رؤيته التي لم تجد مكانها الطبيعي على مسرح الواقع الاجتماعي بشكل مستقل. وهل هناك إمكانية لاستعادة موقعه وفعله وتجديد خطابه السياسي؟ بطبيعة الحال فإنَّ مجتمعاتنا ذات التكوين الطبقي المتخلف جزء من البلدان النامية، وهي في العتبة الأولى من مرحلة التطور الرأسمالي وتسود علاقاتها الإنتاجية بقايا الإقطاع والعشائرية وسيادة مفاهيمها، لم تكن مهيأة لحلول جذرية مما يتطلب نضوجًا فكريًا وسياسيًا كبيرًا قادرًا على اشتقاق رؤى انتقالية بعيدة المدى تلائم مستوى التطور الفكري الذي هو بالضرورة انعكاس لتطورها الاقتصادي والاجتماعي، والذي شوهته الثقافة الاستهلاكية وساهمت في إنتاج وعي مستورد، كما تستورد الألبسة!
وليس أدل على ذلك من صيحات الإصلاح دون ملامسة مداخله الحقيقية، وحيث البرامج السياسية لا تحدد افتعالا؛ بل هي استجابة محددة للظرف الموضوعي المرتبط بالظروف الذاتية ودرجة تطورها حتى تأت تعبيرا أمينا عن الحاجة الموضوعية.
والآن.. ما التحديات المطروحة اجتماعيًا والتي تمكّنه من استعادة حيويته ونشاطه؟
تعد فترة الستينيات والسبعينيات العقود الذهبية لليسار وطغيان خطابه السياسي، ثم بدأ بالانحسار التدريجي إلى حد التلاشي، دون أن يلغي ضرورته التاريخية، فما زال اليسار ملح الأرض ويحمل مشروع التغيير الاجتماعي والآفاق رحبة أمامه. ومن المهم التدقيق في الأولويات وهو ما عجزت عن تحديده الأنظمة الرسمية. وأعتقد هناك أربعة محاور رئيسية تشكل هاجس القطاع الوطني العريض وكلها ميادين واسعة لفعله واستعادة دوره.
أولًا: الموضوع الاقتصادي والاجتماعي وهو ضاغط بشكل ملحوظ ويستقطب يوميًا شرائح اجتماعية كانت بعيدة عن الهموم المطلبية المعيشية. ثانيًا: التطبيع مع الكيان الصهيوني المرفوض شعبيًا. ثالثًا: الهيمنة الإمبريالية عبر الشركات الاحتكارية على مقدرات الثروة الوطنية وشروط الاستثمار والعقود المجحفة في عديد الأقطار الخليجية.. وإذا ما علمنا حجم إنتاجنا وحصتنا سيكون فتح هذا الملف المغلق بإحكام مدخلا إجباريا دونه لا تستطيع الدول الخليجية أن تفي بالتزاماتها الاجتماعية وسيكون من مصلحة الرسميات الخليجية التنصل من بعض الشروط القاسية تحت حرارة المطالب الشعبية؛ إذا لم يفهم ذلك على طريقتها المعتادة. رابعًا: الحريات السياسية وحرية الرأي والتعبير بشكل عام.
هذه المحاور ستشكل عناوين نضالات قادمة في ساحة الخليج العربي، وإذا كان الإجماع واسعاً حول العنوانين الأولين، فإنَّ الجماهير ستكتشف أن تحقيقهما غير ممكن دون إشاعة الديمقراطية التي تمكنها من التعبير عن آرائها بوضوح. وإذا سلمنا جدلًا بأن هذه القضايا في العمق هي محور الاهتمام الشعبي العام في المرحلة المقبلة، فإنَّ السؤال الذي يطرح نفسه ماهي القوى التي تشكل هذه العناوين جوهر همومها ورؤيتها السياسية والفكرية ومرتكز مشروعها التاريخي؟
هنا تبرز قيمة وأهمية القوى اليسارية بكل ألوانها ولا توجد قوى اجتماعية أخرى تشكل هذه العناوين جوهر اهتمامها وهو مجال واعد لفعل القوى التقدمية في المنطقة التي تنتظرها مهمات شاقة في قادم الأيام ؛ تفرضها طبيعة التحديات. فهل اليسار الخليجي مؤهل تنظيميًا وفكريًا وبرامجيًا للنضال الديمقراطي؟
لست مُتيقنًا من مدى جهوزيته واستعداده الأمر الذي يتطلب فتح حوار ديمقراطي واسع في صفوفه ولملمة أوضاعه واستعادة دوره بالتفاعل العملي مع القوى اليسارية العربية نحو إعادة الاعتبار لاختياراته الطبقية والفكرية بحيث يتحول إلى عامل نهوض عربي كبير يلحظ احتياجات الواقع ويرفد اليسار العربي في مواجهة حالة التهميش والإقصاء التي يتعرض لها في هذه المرحلة التاريخية، في ظل الهجوم الإمبريالي والصهيوني على الأمة العربية وعموم المنطقة، وفي ظل تحولات كبرى متوقعة على الصعيد الدولي.