بين عناء الوظيفة وشرف المهنة

 

مصطفى عبد المولى

معلم لغة عربية بمدرسة أحمد بن ماجد الخاصة

 

إن المتأمل بثاقب نظره وحصافة رأيه في مدونات الأدب التربوي سيلحظ أن هناك بديهيات ومنطلقات لا يمكن تجاهلها أو الحياد عنها، وأول تلك البديهيات أن المعلم أو بالأحرى المربي هو "كلمة السر الأولى" في إيجاد مخرجات تعليمية مرجوة، لا سيما ذلك المربي الذي يقوم بأكبر عملية عبور إن جاز التعبير، وأقصد عبوره للطالب حتى يأخذ بيده ويضعه على درب التعلم.

ولا شك أننا في ظل هذه النقلة النوعية في التعليم سواء كماً أو كيفاً، والتي تجلت في آخر سنتين أو ثلاث، لابد أن ننتبه أن تلك المخرجات والنهايات لن تأتي عبثاً أو خبط عشواء، بل لابد أن تكون نتاجاً علمياً ممنهجاً مراعياً لكل زاويا المثلث التعليمي المعروف (المعلم - الطالب - الأسرة).

ومقالي هذا سيبدأ بالطرف الأول ألا وهو المعلم، فلم يعد معلم القرن الواحد والعشرين هو ذلك الشخص المدجج بالشهادات العلمية والإجازات الأكاديمية فحسب، والذي صار كالماكينة المعلوماتية التي تضخ وتضخ المعلومات والمعارف والثقافات والنظريات والقواعد العلمية.. إلخ، في ذلك الوعاء المعروف باسم عقل الطالب، وكأن هذا الطالب لديه عصا موسى يستخدمها أنى شاء لاستدعاء المعلومات التي تم ضخها، ناسيا أو متناسيا تلك الأعباء التي يتعرض لها الطالب والتي ليست خافية على أحد بداية من الحقيبة المدرسية التي تزن وزن الطالب نفسه وأحيانا تزيد، ناهيك عن الواجبات والأنشطة والمشاريع والعروض التقديمية والمسابقات والفعاليات والامتحانات التي يغدو عليها ويروح صباح مساء ...إلخ دون أن يهيئ ذلك المربي تربته ويعلم ظروفها ويصلحها وقبل أن يزيل ما بها من عطب أو فساد فكري أو اجتماعي قبل بذر  بذرته.

إن فلسفة التعليم صارت تعتمد مخرجاتها في بعض المناهج على المهارات التي اكتسبها الطالب، وهذا توجه طيب وليس ذلك الكمّ الذي ما زلنا نراه في بعض المناهج، ولا فرق في هذا الهدف بين مواد علمية أو إنسانية.

ولا شك أن الوصول لهذا الهدف ليس هيّنا وليس طريقاً سهلاً، بل يحتاج لدربة وممارسة وقراءات واطلاع على كل ما هو جديد في المناهج، وطرق تدريسها، وكيفية تحويلها من عالم القول لعالم الفعل، وهذا هو عناء تلك الوظيفة التي نمتهنها جميعاً، بالإضافة إلى كل شيء يقوم به المعلم من تكليفات ومهمات ليست خافية على أحد، ولكن سرعان ما ينتهي ذلك العناء إن أنبتت تلك البذرة وأينعت كما هو مخطط لها.

ولذلك أتوجه لكل مُربٍّ بأن يسأل نفسه في نهاية كل درس أو على الأقل نهاية كل وحدة تمت دراستها: ما المهارات التي اكتسبها الطالب في هذا الدرس أو تلك الوحدة؟ وليس ما المعلومة التي تم تخزينها في ذلك الجهاز الرباني (عقل الطالب)؟ لنسأل أنفسنا جميعًا: هل ملأنا الوعاء أم قدحنا الشرارة؟ سواء أكاديميا أو على مستوى الأنشطة واكتشاف المواهب.

إن سوق العمل ومتطلبات الحياة القادمة بعد الدراسة توكد ما نذكره الآن، وما زلت مؤمناً بتلك النظرية التي أتبناها مع طلابي وهي: ما قيمة المعلومة إن لم تنتج مهارة؟

ما قيمة معلوماتي عن السباحة؟ إن لم أتقن رياضة السباحة سأغرق وأغرق غيري. ما قيمة معلوماتي عن قوانين القيادة وأنا لا أتقن القيادة؟

وهذا المخرج أو المنتج ليس مقصوراً على المواد العلمية فحسب؛ بل هو أشمل وأعمق، فالطالب الذي قدحنا فيه شرارة الإنتاج والإبداع وتوظيف تعلمه سنجده في كل المستويات منتجاً مقترحاً مبدعاً،مفكراً، ليس همُّه صبَّ المخزون في ورقة تسمى ورقة الامتحان النهائية، ولا شك أن المربي الملهم المبدع الذي يكابد كل يوم عناء وظيفته ومستلزماتها وقوانينها هو ذاته الذي ينال شرف ذلك الهدف المنشود، هو ذاته الذي يجب أن يكون مزوداً بكافة الأدوات والمهارات التي تؤهله لإيجاد جسور التواصل والفهم والإفهام بينه وبين طلبته، هو ذلك المربي الذي يعلم خصائص طلبته النفسية والاجتماعية والسلوكية والعمرية وفن التعامل مع كل هذه المتغيرات.  هو ذاته الذي يخطط بمنهجية شاملة ويوثق لكل أعماله، ولا أقصد بالتخطيط ذلك المفهوم القاصر الذي يخص الموقف الصفي، بل إن التخطيط عملية أشمل وأعمق تأخذ في الاعتبار أنها تتعامل مع عقول وليس مع آلات مبرمجة. هو ذاته الذي يعلم متطلبات درسه وأدوات تجديده، بعيدًا عن الروتين اليومي السخيف الذي يقتل روح الإبداع والابتكار، بل يقتل روح الإقبال على الدرس نفسه.

هو ذاته الذي يبث القيم الأصيلة والمبادئ الأخلاقية، وقبل هذا تكون متمثلة في نفسه باعتباره القدوة الأولى التي يقابلها الطالب كل يوم. هكذا يستطيع أن يدسَّ العسل في العسل، إن جاز التعبير.

هو ذاته الذي يحافظ على نموه العلمي والتربوي والمهني وصولاً إلى درجة الاحترافية، وهذه الدرجة ستكون مطلباً لأي مؤسسة تريد الترقي فيما بعد، فالمعلمون العاديون كُثر  ولكن فئة قليلة هي التي تمتلك سلوك الاحتراف، وأعتقد أننا جميعا نشعر الآن بتوجه كثير من المدارس لهذا الأمر.

هو ذاته المربي الذي لا يخجل أبداً من جملة "لا أعلم"، حتى يسارع في البحث والسؤال والتدريب لتعلم كل ما هو جديد، حتى يسأل نفسه سؤلا في نهاية كل فصل دراسي أو عام دراسي قائلا: ما المهارة التي اكتسبتها أنا كمعلم هل تجددت وزادات أم تبددت؟

هو ذلك المربي الذي لا يؤمن بثقافة إنجاز الأعمال في آخر اللحظات تلك الثقافة التي تهدر الوقت والجهد؛ لأنها ببساطة لا تخدم نظرية الجودة في التعليم وضد سلوك الاحترافية في العمل.

هو ذاته المربي الذي ييسر ولا يعسّر، والمرن في أسلوبه وعلاقته وفهمه لكل ما ينتجه الطالب، ويعلم أن ٥ + ٥= ١٠، وكذلك ٣+٧=١٠، وأيضا ٨+٢=١٠.

هو ذاته المربي الذي يحافظ على جميع العلاقات الجيدة ويتواصل مع الجميع محققاً مبدأ "نختلف لكن لا نفترق".

هو ذاته المربي الذي يعلم أن الإقدام لا يحتاج إلى أقدام بل إلى رغبة وعزم وإيمان بشرف ما وضعه الله فيه، فقديماً قالوا: إذا أردت أن تعلم عند الله مقامك فانظر أين أقامك.

وهل هناك مقام أفضل من ذلك المقام (التربية والتعليم).

هكذا سيدرك ذلك المربي الملهم المبدع أن عناء ومشقة تلك المهنة سيذوبان في واحة شرفها، هكذا سيدرك بضميره اليقظ وحسّه المهني حلاوةَ ولطف ذلك المعنى القرآني العظيم.

"فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض". صدق الله العظيم.

تعليق عبر الفيس بوك