مسارات قد تُنتج الفقر

 

 

د. عبدالله باحجاج

العنوان أعلاه صرخة مُتجددة، ونتمنى ألا يكون مصيرها الأودية السحيقة، وقد استلهمته- أي العنوان- من طرح وظائف جزئية/ بالساعة، وعرض مهن متدنية، وافتخار بعض المسؤولين الحكوميين بها، وهذه ليست الوحيدة التي تُنتج الفقر، فهناك مسار التقاعد الإجباري، والحد الأدنى للأجور (325 ريالًا)، كلها تُنتج الفقر، وحتى لو وفرت الدولة الآلاف من مثل تلكم الوظائف، فمصيرهم إلى الفقر، فماذا تعني ساعة عمل أو راتب الحد الأدنى في عصر الجبايات (الضرائب والرسوم) ورفع الدعم عن المجتمع.

وتلكم الفئات خاصة تلكم التي تمس جيلنا الجديد، لن يحلموا بقطعة أرض سكنية في وطنهم، لأنهم لن يتمكنوا من بنائها، فالقانون الجديد يشترط لاستحقاق الأرض السكنية شرط بنائها، فمن أين؟ وكيف سيتمكنون من توفير التمويل بالمرتبات الجديدة؟ فقد نشهد تأجيلات بعيدة المدى لبعض الحقوق، كحق السكن وحق الزواج.. إلخ، والتأجيل أفضل السيناريوهات، وأسواها انعدام الحق، وهذه تحولات متغيرات بالغة الخطورة الاجتماعية، ولها تداعيات أمنية وسياسية مستقبلية.

وإذا ما استمررنا في هذا الفكر، فالأغلبية ستتحول إلى فقراء، بصرف النظر عن مفهوم الفقر ومعاييره الدولية، من هنا نحذر بصوت مرتفع من الفقر في صفوف المتقاعدين وفي فئة الشباب، وهنا تظهر فرص العمل التي تطرحها وزارة العمل، إنها مشاريع فقر، وهنا تكون قد حلت مشكلة، وأنتجت مجموعة مشاكل كبرى، وبالتالي سيكون أعداد الذين يتم توظيفهم خادعا، صحيح نظريا يتم التوظيف عدديا، لكنه يدخل البلاد في معضلة الفقر.

ربما تكون هذه الرؤية غائبة عن صناع سياسة الشغل، لكن لا ينبغي أن تغيب عن عقل الدولة السياسي؛ فالصناع يقعون تحت ضغوط توفير فرص العمل، وهي قوية جدًا، وكل إنتاجاتهم لا تتعدى الواقع المعاصر كما هو، لا كما يجب، ربما لثقافتهم، وللمصادر التي يستقون منها فكرهم دون التركيز على المآلات، وربما لا تساعدهم النقلة الاقتصادية الإنتاجية على تقديم جودة الوظائف وفرص العمل. وهنا يعترضني تساؤل منهجي، وهو: هل صناع الشغل في بلادنا لم يعد لديهم من خيارات أخرى سوى شرعنة وظائف ومهن الفقر؟

وهنا أتساءل: هل تعلم الحكومة بوظائف قد تسبب الفقر ومستقبل تأثيراتها الأمنية والسياسية والاجتماعية في عصر الانفتاح الاستثماري والآيديولوجي؟ وتساؤل آخر، وهو هل لدى الحكومة إحصائية استشرافية بأعداد المواطنين الذين يعملون في وظائف قد تسبب الفقر؟ لا يمكن أن يستمر صناع الشغل في سياساتهم، وكذلك صناع السياسات المالية في إجراءاتهم المالية، إلى ما لا نهاية دون دراسة تأثيراتها سالفة الذكر، وكأنهم يقذفون في المحيطات، فهم يشتغلون في منطقة اجتماعية ذات حساسية بالغة التعقيدات، ومتفاعلة مع متغير وتحول، ونخشى من التراكمات وتقاطعاتها الداخلية والخارجية.

من هنا نرى حتمية التقييم أو التقويم العاجل لها، ومن فاعلين أو مؤسسات مستقلة داخل الدولة، حتى تصل الحكومة إلى كيفية صناعة المجتمع الجديد في عصر الجبايات، وما مآلاتها المستقبلية؟ إذ ليس من المصلحة الوطنية، ترك المسيرة تعمل في المجهول، أو اتخاذ القرارات في غرف مُنعزلة أو أحادية.

ومن تموقعاتي الاجتماعية، ووقوفي الميداني على أرضية مجتمع التحولات والمتغيرات، أرى أننا منذ سنتين، نؤسس للمستقبل بُنى اجتماعية غير مستقرة ماليًا، وتشهد في المقابل تحولات ومتغيرات ذهنية بصورة غير مسبوقة، ومُقلقة كذلك، وهنا يستوجب عاجلًا أن تتدخل السياسة، والظرفية المالية مواتية للتدخل، وكل تأخير سنفقد من خلاله الكثير اجتماعيا، وكسب المجتمع، وصناعة أمنه المالي، ليس صعبًا؛ بل ممكن بشرط تحريره من قبضة الماليين ومن الفكر الفردي لصناع الشغل.

وحتى لو تأملنا في أثر وظائف قد تسبب الفقر من منظور الصناعة السيكولوجية، فسنجد أنها تبعدنا عن الصبغة الوطنية، وترمي بها في صناعات ولائية أفقية، لمن يضمن أكثر من ساعة عمل أو ساعات عمل يومية، أو راتبا أكبر من الحد الأدنى ومستداما. وأغلب الفاعلين في سوق الشغل، وافدين قُدامى أو جُدد، وكل من لديه أجندات سياسية أو أيديولوجية سيجد البيئات مواتية لتحقيقها، وحتى لو راهنَّا على الاستثمارات الجديدة المحلية والأجنبية في إنتاج فرص العمل، سيظل شبح الفقر قائمًا في مرتباتها وماهيتها، وكذلك في استحقاق الوطنية، كحق الأرض السكنية، والمسكن التي أصبحت الآن مقيدة بالقدرة على بناء الأرض الممنوحة من الدولة.

فمن سيتمكن في ضوء ما تقدم من الحصول على الأرض السكنية؟ هم أبناء المقتدرين فقط، أي الأغنياء، ولن نجدهم في فئات راتب الحد الأدنى، ولا أبناء فئات المتقاعدين، ولا في فئات العقود المؤقتة العاملين في وظائف دائمة.. فمن أين؟ وكيف سيوفرون التمويل المالي بمرتباتهم المتدنية؟ لن تمنحهم البنوك، ولن يحصلوا على القروض من صديق أو قريب، وكل ذلك سيترتب عليه تأزم سيكولوجيتهم، وستصطبغ شخصيتهم بها، القضية أكبر مما طرحته، وما طرحته ما هو إلا لفت الانتباه لمسارات غير مدركة بالمآلات، وذلك لدواعي التعمق فيها، وتصحيح اختلالاتها.