عن التاريخ والرؤى الحقيقية!

 

يوسف عوض العازمي

alzmi1969@

"رصيد الديمقراطية الحقيقي ليس في صناديق الانتخابات فحسب؛ بل في وعي الناس" جان جاك روسو.

 

الحديث عن التاريخ لا يمل، ولا يمكن أن يتوقف طالما الأحياء يكتبون ويدونون، إنما هناك عقبات أو حواجز أو عراقيل- سمها ما شئت- تبعثر مجهودات تمكنت من الوصول لنتائج غير مسبوقة تاريخيًا ثم تتوارى وتدفن تلك المجهودات لأسباب ليس منها الأكاديمي ولا ضعف التدوين بل لأسباب أبعد عن ذلك!

قبل سنوات حكى لي أحد الأكاديميين المسؤولين عن الدراسات العليا بالعلوم السياسية عن الوصول لمعلومة هامة لم تكن متوقعة بشأن التاريخ السياسي لإحدى الدول، إنما تم وأد هذه المعلومة من تلقاء نفسه حتى لا يوقع الباحث في أمور لا تتماشى مع البحث الأكاديمي!

هناك من يعتقد أن كل شيء متاح للبحث والتنقيب والتحليل، والحقيقة أنه على أرض الواقع غير صحيح، ذلك أن هناك محظورات أقلها اجتماعيًا تؤثر على نشر وتداول مثل هذه الأبحاث الدقيقة البحث، والباحث هو في الحقيقة إنسان قد لا يملك الحظوة أو النفوذ ليتمكن من تمرير دراساته، وأحيانًا قد يكون أجمل التخصصات الدقيقة في التاريخ والعلوم السياسية هي تخصصات أوروبا والأمريكتين وآسيا وأفريقيا؛ حيث البحث الذي لا يخشى منه ولا عنه، وأبعد عن الشر وغني له!

في عالمنا الصغير غالبًا نضحك على أنفسنا ونكذب ونصدق أكذوباتنا أننا نتقبل الرأي والرأي الآخر، وأننا نقدّر البحث الأكاديمي وأهله وفي الواقع إن هناك خطوطًا حمراء يتجاوز عددها الخطوط الخضراء، فلا نضحك على أنفسنا وندعي ما هو ليس لنا، هناك مراحل لم نصل إليها وصعب نصلها، على الأقل في الوقت الحاضر!

الحرية ليست مهرجانات خطابية وفق ما يطلبه المستمعون أو بنايات شاهقة أو برلمانات كالظاهرة الصوتية، أو حتى مواسم للضحك والبهرجة؛ بل هي الحرية المسؤولة التي تقدم الحدث وفق ماحدث، وتحلل وتساهم ببناء الوطن وفق قوانين ولوائح تتيح القدرة على الإبداع العلمي، وتشجيع التفكير النقدي وتعدد الآراء، وإقامة الندوات العلمية والسياسية والقانونية والتاريخية والأدبية وغيرها التي تضع لبنة في البناء، متسعة المضمون وواضحة الهدف، يقوم عليها أبناء الوطن من رجال ونساء مؤهلون قادرون على وضع الحلول نظرًا لمؤهلاتهم العلمية المميزة، تلك المؤهلات التي حصلوا عليها فعليًا ولم تكن بضاعة تباع وتشترى ومن ثم تكن بحوزة  "حامل شهادة" يضع حرف الدال قبلها!

إصلاح الدول هو ثقافي اجتماعي قبل أن يكون سياسيًا؛ فالإصلاح السياسي هو ما يكون متواجدًا حال تم الإصلاح الحقيقي من الداخل ثقافيًا واجتماعيًا، وهو الأهم في رصف طرقات البناء، لا يمكنك تحقيق إصلاح سياسي قبل الثقافي والاجتماعي وإلا أنت تضحك وبصوت عال على نفسك!

شعارات الوحدة الوطنية والمواطنة الصالحة، كلها عناوين براقة سرعان ما تخفت مع أول اختبار، إن لم يباريها إصلاح ثقافي وتوعية اجتماعية حقيقية، فالرؤية المطلوبة ليست رؤية سنة كذا وسنة كذا، فهي مجرد شعار ما إن تأتي السنة الموعودة ستحمد الله، إن انجزت ربع الرؤية لأنها لم تكن على أساس قوي ومتين، التهيئة الثقافية والاجتماعية هي الأهم من الرؤية والمشاركة السياسية التي حتما" ستكون صورية، على طريقة "الشور شورك يا بيه"!

من خلال "التعليم" وهو الخطوة الأولى ويشمل كل جوانب الحياة، وأختيار دقيق للمعلمين حتى وصل الأمر بوجود سيرة ذاتية عن المعلم وحسن سيره والسلوك، للأهمية البالغة لمستوى المعلم أخلاقيًا وعلميًا مما يؤهله ليكون أنموذجًا مميزًا ومثلًا أعلى للأجيال الصاعده، فالمعلم ليس موظفًا؛ بل صانع أجيال.

في أوروبا لم تبنَ عصور النهضة من السياسة بل من محاربة المستفيدين من الكنيسة والذين كانوا يحكمون فعليًا وإن كانوا بلا مناصب، وكانت معيشة الناس رهنًا بفتاواهم ورغباتهم، ثم بعدها بدأ الإصلاح الثقافي والاجتماعي إلى أن نعكس ذلك وأدى إلى الإصلاح الاقتصادي والسياسي.

إن الاهتمام بالتاريخ وبالثقافة والآداب هو الطريق الأمثل لبناء قاعدة متينة يتمكن بعدها المجتمع من النهوض لتحقيق العدالة الاجتماعية وترسيخ المواطنة، وانهماك كل فرد في خدمة الوطن وفق منظور متطور يستطيع به الفرد تحقيق أكبر قدر ممكن من خدمة نفسه وأسرته وبالتالي ينعكس ذلك على وطنه، تشجيع ودعم المواهب الخلاقة في كافة مناحي العلوم هو الرؤية الحقيقية وليس بناء أرصفة موانئ وبناء مؤسسات لايعرف عنها المواطن ولايستفيد منها سوى القليل من المحظيين وقد تكون فائدة الأجانب اكثر!

المقال كان سيتحدث عن التاريخ وكتابته أكاديميًا، إنما الكلمات ومعانيها جرتني لمتكآت أخرى، أزعم أنها تصب بنفس الهدف، التاريخ هو تسجيل للحياة ورؤاها، وقوانينها وقواعدها ولوائحها، فهل كنت مخطئًا عندما أسترسلت بعد ذلك؟

قال لي أحد الأصدقاء إن زبدة الكلام: التاريخ هو منصة أو قاعدة المستقبل لمن أراد أن يحقق رؤيته في سماء الفضاء.

الحكم لك قارئي الكريم.