د. سعيدة بنت خاطر الفارسية
لستُ أدري لماذا عندما نُسافر ويغيب وجه الوطن يصبح الوطن أكثر حضورًا وبهاء، وتحاصر القلب أشذاءٌ خضراء النبض حتى يعود مرفرفا على حنين الأمكنة.
في صباح فجر بارد العذوبة استقبلتني باريس.. ومنذ اللحظات الأولى شعرتُ بالأنس والدفء والترحاب وهو شعور تسرب إليَّ من اهتمام سفارتنا بكل حدث أو مُشاركة يحضر فيها اسم عُمان.
في اليوم الثاني كانت الأناقة بصنوفها الجمالية في انتظاري، والأناقة ليست وصفاً لظاهر الأشياء فحسب، بل تتنوع بتنوع أطيافها، وكما أن هناك أناقة في المظهر، هناك أناقة في الفكر، وأناقة في التعبير والكلام، وأناقة في التصرف، وأناقة في المشاعر، وتمامها أناقة الشخصية ككل.
لقد كنتُ في أفياء بيت عمان الدفيئة، رغم لسعات الجو الباردة خارجها، وفي هذه الأجواء التقيتُ بسعادة السفير الأنيق الحديث والثقافة، ثم بنائبته الدبلوماسية النشطة، ثم بالملحق العسكري العقيد الأنيق روحاً وإنسانية، وبنموذج من الجيل الجديد المجتهد المشرق خالد الكثيري، الذي كان أنيقًا في بساطته وابتسامته، فحتى للبساطة أناقتها الرحبة، والذي بلاشك أن تواجده في مكان راقٍ كهذا ومع كوكبة مُتميزة كهذه، سيشكل له خبرة وزادا دبلوماسيا مستقبليا للتميز.
لقد كان حضوري لباريس بدعوة مقدرة من الأستاذ علي المرعبي صاحب مؤسسة ومجلة "كل العرب" ووكالة أنباء ودار نشر والأبحاث بفرنسا واتحاد الصحفيين والكتاب العرب في أوروبا، للمشاركة في الاحتفال باليوم العالمي للمرأة، الذي صادف يوم الثلاثاء مساء 8 مارس 2022، وقد احتضنت فيه قاعة المركز الثقافي الجزائري الشخصيات النسائية ذات العطاء والحضور المُميز ليتم تكريمهن من قبل مؤسسة كل العرب، ذلك الاحتفال الذي حضره جمهور من السفراء والدبلوماسيين والمثقفين والإعلاميين وبعض من أهل الفن كمصممة الأزياء والعازفين والمطربة الجزائرية التي ختمت الحفل، ورغم نجاح الاحتفال وكثافة الحضور، فإن الذي يهمني كعُمانية أن أركز على المشهد العُماني الذي شكَّل سيمفونية راقية الإيحاء والاهتمام بكل حدث يحمل اسم غاليتنا عُمان، لقد كان الحضور العماني على وجه الخصوص مُميزا متألقا ابتداء من حرم سعادة السفير بباريس الأستاذ غازي الرواس، والملحق العسكري العقيد عيسى المعولي وحرمه، وحرم المستشار غازي المعمري، وحرم السكرتير الأول خالد الكثيري، مع حضور بعض الطلبة العمانيين الدارسين في باريس، باختصار كان حضورا مكثفا مبهجا ومبتهجا من القلب بتكريم اثنتين من نساء عمان بين هذا الجمع الباذخ من النساء العربيات المبدعات.
وابتدأ الحفل بتقديم الدبلوماسيات العربيات والتعريف بأدوارهن وجهودهن والصعوبات التي تجاوزنها كنساء برزن في حقل لم يكن للمرأة فيه موطئ قدم إلى عهد قريب، مفتتحة الحديث الدكتورة منى البيتي نائبة سفير سلطنة عُمان في فرنسا، وهي فنانة تشكيلية يتصف إبداعها بالأصالة والتَّفرد، زينت بلوحاتها الفنية جوانب المسرح، فشع المكان بتراقص الألوان المبهجة، وكان حضورها المميز هو حضور المرأة العمانية المعاصرة، متعددة الجهود والمواهب، لقد تحدثت الدكتورة منى باختصار عن المرأة العمانية ومشاركتها الفاعلة في التنمية، منوهة إلى أنَّ الحديث عن إنجازات المرأة العمانية يحتاج لسعة ضافية من الوقت، الأمر الذي لا يتناسب مع ازدحام برنامج الحفل، تبعها حديث عدد من النساء العربيات الدبلوماسيات وهن: الأستاذة فاطمة محمد عثمان أحمد سكرتير أوَّل سفارة السودان بباريس، والأستاذة مهيتاب مرزوق، حرم السفير المصري بباريس، وفتحية محمود صديق، حرم السفير اليمني بباريس، والأستاذة ابتسام هجاك مستشارة ثقافية في السفارة الجزائرية.
وتبع هذا الاحتفاء بالدبلوماسيات، تكريم خاص للسيدة أنيسة بومدين، حرم الرئيس الجزائري الأسبق هواري بومدين، وتكريم خاص كذلك للسيدة أنيسة خضر العربية التي وصلت باجتهادها إلى النائب بالبرلمان الفرنسي عن مدينة ليون.
وقد أعقب تكريم الدبلوماسيات، تكريم الأديبات العربيات المبدعات، وتشرفتُ بأن كنتُ واحدة منهن؛ حيث تحدثتُ عن جهود المرأة العربية وصمودها وصبرها في ظل أوضاع الوطن العربي المقلقة، واعتبرتُ المرأة العربية بذلك امرأة التحديات الكبرى والقضايا الإنسانية المربكة، وقد اكتفيتُ بما قالته د. منى البيتي نائبة السفير وتلميذتها يوما ما في جامعة السلطان قابوس.
لقد كنتُ أعرف آنذاك أن منى البيتي ستحلق كفراشة ضوئية تبتكر ألوانها بتأنٍ وروية، فالمثل العربي يقول: "الديك الفصيح في البيضة يصيح"، وللحق فرحتُ بتلميذتي فرحة طاغية مثلما فرحتْ بي أستاذتي الشاعرة الكبيرة نازك الملائكة، عندما ألقيتُ قصيدتي لأوَّل مرة في مهرجان المربد الشعري في العراق، بين عمالقة الشعر العربي آنذاك، ومثلما فرحتُ أنا عندما تمَّ تكريمي في حفل المبدعة العربية على ضفاف النيل مع أستاذتي الشامخة نقدا وشعرا وثقافة/ نازك الملائكة أيضا، وكأنَّ القدر أراد أن يجمعني بمن تنبأت لي بالشاعرية وتعهدتني برعايتها المُباشرة في الجامعة.
لكن أستاذتي لم تتمكن من الحضور- آنذاك- للأسف الشديد بسبب مُعاناتها من المرض في أيامها الأخيرة. ولا شك أن فرحة الأستاذ بنجاح تلاميذه لا تعدلها فرحة حتى وإن تفوقوا عليه، فما أجمل وقع هذا التفوق الذي يتلذذ به الأستاذ في ميدان العطاء والافتخار، فنجاح التلميذ هو امتداد لنجاح معلمه وجهوده.
وتوالتْ الكلمات من الأديبات العربيات: الروائية والشاعرة التونسية حياة الرايس، والشاعرة الإماراتية الهنوف محمد، والدكتورة الأحوازية إلهام لطيفي الباحثة في جامعة لييج، والمدافعة عن قضية الأحواز سياسيا، والشاعرة التونسية رجاء الشابي.
ثم تلى هذا تكريم الإعلاميات، والفنانات مصممة الأزياء والمطربة سلمى الجزائرية.
لقد كان حفلًا بهيًا تألقتْ فيه المرأة العربية ذات العطاءات المتعددة، ورافقت هذه الاحتفالية الاحتفال بنشر كتاب "صباح الخير باريس" هذه قصائدنا / شاعرات العرب.
وقد ضم هذا الكتاب عددا من القصائد الشعرية للشاعرات المشاركات بالحضور، والأخريات اللاتي لم يتمكَّن من الحضور بمختلف أرجاء الوطن العربي والمقيمات في المهجر، وهي فكرة تبناها الأستاذ علي المرعبي رئيس تحرير مجلة كل العرب، طبعت باللغة العربية والفرنسية ونشرت في باريس وحول العالم، وتضم المجموعة عدة قصائد لـ31 شاعرة عربية، وقد صنفت الشاعرات بالكتاب حسب الأبجدية العربية. وقام بترجمته الشاعرة والمترجمة التونسية رجاء الشابي.
ختامًا.. ولا يحد الجمال ختام، وإنما من باب إرجاع الفضل لأهله، أتوجه بالشكر لمؤسسة كل العرب بمختلف فروعها وجهود صاحبها البارزة في إثراء مناشط الجالية العربية والاحتفاء بهم وبالثقافة العربية بشكل عام.
وأُرسل باقات شكر مُفعم بالفخر والامتنان إلى سفارتنا، سفيرة الأناقة في باريس، متمنية أن يسري هذا الجمال على كل عماني تؤكأ إبداعه وحطَّ رحاله بينكم.