الاستشعار بالمرحلة

 

د. صالح الفهدي

لا يمكننا أن نرتبط عمليًا بالمستقبل، ونحن ننفصلُ ذهنيًا عنه! يقول المفكر الأمريكي وعالم المستقبليات إلفين توفلر في كتابه "صدمة المستقبل": "إن إحساس الفرد بالمستقبل قد يكون من بين الأسباب الكامنة الموصِّلة إلى التكيُّف الناجح"، أما الاستشعارُ بالمرحلة فهي قاعدة الإحساس بالمستقبل، فكيفَ يمكن أن يتحدَّث أحدٌ ما عن المستقبل وهو لا يستشعر بالمرحلة الحاضرة بما تشتملهُ من تسارعٍ في المتغيرات، وتلاحقٍ في المستجدات، وتطوِّر في الآليات، وحداثةٍ في الأدوات؟! هذا أمرٌ بديهي، محسومِ النقاش.

"الاستشعار بالمرحلة" هو امتلاكُ صنَّاع القرار الوعي الشامل الذي تعنيه هذه المرحلة الزمنية، وما يحيطُ بها من تحديات، ومميِّزات، وظروف، وتقلُّبات، ومستجدَّات، وهي أشبه بلحظةٍ ما تكونُ عليها سفينةٌ في بقعةٍ ما في محيط؛ حيثُ تتلاطمُ الأمواج، فترتفعُ بالسفينة وتنزلُ بها، وتصطفق الرياح بأشرعتها، والأجواءُ لا يستقرُّ لها قرارٌ في الأُفق، على أن اللحظة نفسها حافلة بالفرصِ التي تلوحُ في الفضاء الفسيحِ أيضاً..مثل هذه اللحظة تحتاجُ إلى قيادةٍ حكيمةٍ قادرةٍ على استشعار المرحلة التي تمرُّ بها السفينة، فتعرفُ كيف يمكنُ أن تقودها خارجَ هذه المرحلة الآنية.

الاستشعارِ بالمرحلة أمرٌ يجب أن تُدركهُ كلُّ حكومةٍ وكلُّ شعب، وهذا يتطلَّبُ تحليلًا دقيقًا لطبيعة المرحلة، وما تشملهُ من عناصر له أهميتها وآثرها على الحياةِ في وطنٍ معيَّن، وهُنا نؤكِّدُ على الحاجة إلى مراكز للدراسات الإستراتيجية المرتبطة بصناعة القرار.

إذا شئنا أن ندخلَ في تفاصيل ما نعنيه بالاستشعار بالمرحلة فيما يتعلق بالحكومة، فإننا نقول: إنه إذا كانت هذه المرحلة تواجه تحدِّيات اقتصادية بالدرجة الأُولى، مما يستوجبُ على الحكومة أن تستثمر كل الفرص الإقتصادية التي تمتلكها، فإنَّ هذا الأمر يتطلَّبُ منها العملُ جديًّا على ثلاثة أمور أساسيَّة؛ هي: اختيار الكفاءات الجديرة لقيادة المرحلة، وترشيق آلية صنع القرار، وتفعيل الحوكمة.

أما اختيار الكفاءات، فهذا موضوعٌ مفصلي؛ ذلك لأن الكفاءات التي تمتلك القدرة على استشعار المرحلة، والوعي بما فيها من فرص وتحديات والتعامل معها بإيجابية عالية هي الكفاءات الأقدر والأجدر بالقيادة.

في حين أننا نعني بترشيق آلية صنع القرار ما يتعلَّقُ بفرعين أساسين؛ هما: اختصار الهيكل الإداري، وتفعيل التفويض والتمكين. بينما العنصر الثالث يتمثل في تفعيل آليات الحوكمة، ونعني به المراقبة والمساءلة والمحاكمة والشفافية والنزاهة للعمل في عمومه.

في اعتقادي لو أن كلَّ حكومة عملت بهذه الأُسس الثلاثة لاستطاعت أن تملك ليس فقط القدرة على الاستشعار بالمرحلة؛ بل والتعامل مع التحديات بصورة إيجابية واستثمار الفرص التي تمتلكها والتي يمكنها أن تستقطبها لصالح الاستثمار في أراضيها.

أما إذا رأينا إبطاءً في اتخاذ القرار، وتأخيرًا في التعاملات، وتعقيدًا في القوانين، فإن ذلك يعني أن الاستشعار بالمرحلة في أدنى مستوياته، وأضعف مؤشراته، ولهذا تداعياته السلبية على الإقتصاد والإستثمار والتنمية في البلاد.

أما الاستشعار بالمرحلة للمجتمع فيعني أن يتكيَّف الناس مع الظروف بما يمتلكونه من وعي نحو ضغوطات المرحلة، كما يقول الإنجليز عبارتهم الشائعة التي تصفُ التكيُّف مع مرحلةٍ ما "keep your head above water"؛ وتعني إبقاء الرأس فوق سطحِ الماءِ، فذلك يقي الجسدُ من الفناء، ويوفِّرُ له فرصة النجاة، واستئناف الحياة.

أما أن لا ترى تغيُّرًا في نمط الحياة في أيَّةِ مرحلة، وجهلًا في التعاطي مع متغيراتها، فذلك يعني أن الاستشعار بالمرحلة أبعدُ ما يكونُ عن النَّاس أيضًا.

نخلصُ القولَ إلى أننا بحاجةٍ ماسَّةٍ إلى الإستشعار بالمرحلة التي نمرُّ عليها، وهذا يتوجَّبُ منَّا أن نرفع من وعينا نحو ما يحدثُ فينا وحولنا من متغيِّرات، في الوقت الذي نعي ما نملكه من قدرات وإمكانات لكي نطوِّعها لصالح الإسراع في التنمية، وتقوية الإقتصاد، وتنويع مصادره، وجذب الاستثمار.

علينا أن لا نحابي أحدًا لا يمتلكُ حس الإستشعار بالمرحلة؛ لأن الأوقات التي تضيعُ من الأوطان لها قيمتها التاريخية الثمينة، كما إن تطوير آلية عمل الحكومات لا تقتصر على ترشيق هياكل الأجهزة الإدارية؛ بل أولها اختيار الكفاءات الملائمة وإعادة مراجعة القوانين وتبسيطها.

لا أعتقدُ أن الأمر صعبٌ لتحقيق ما تقدَّم إذا توفرت الإرادة السياسية النافذة والحازمة لبلورة "الاستشعار بالمرحلة" على أرض الواقع.