د. محمد بن عوض المشيخي
مرَّت على شعوب المنطقة سنوات عجاف وكساد اقتصادي غير مسبوق؛ وقفت خلالها عجلة التنمية منذ مطلع العقد الماضي؛ وذلك في العديد من القطاعات الحيوية في دول الخليج التي كانت وما زالت تعتمد على ما يعرف بـ"الذهب الأسود"- أي النفط- لأكثر من 5 عقود في مختلف أوجه الحياة، كما إن العجز السنوي للميزانيات في تلك الدول، وصل إلى مستوى عالٍ؛ هذا فضلا عن المديونيات الفلكية التي تكبدتها اقتصاديات تلك الدول لسد تلك العجوزات المتكررة. ففي السلطنة كانت الديون قد وصلت في 2020 إلى حوالي 20 مليار ريال، وذلك إذا أضفنا فوائدها السنوية المتوقعة.
لعلنا نتذكر جميعًا التراجع الحاد لسعر برميل النفط عام 2020 في الولايات المتحدة الأمريكية بداية جائحة كورونا والذي وصل إلى أقل من دولار أو "القيمة الصفرية" كما يحلو للبعض أن يسمى ذلك الانهيار التاريخي الذي حدث لأول مرة في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، بينما وصل نفط عمان إلى ما دون 17 دولارًا للبرميل في شهر مايو من نفس العام. ونتيجة لهذه الأزمة العالمية الطاحنة والمتعلقة بانخفاض أسعار النفط، فقد ارتفع عدد الباحثين عن عمل إلى أرقام قياسية ونسب مخيفة؛ إذ هناك من تجاوز سن الأربعين وهو ينتظر في الطابور الطويل على أمل أن يجد يوما ما وظيفة لتكون مصدر رزق في بلده يكفل له حياة كريمة، ويكفيه عن مد اليد واستجداء أهل الفضل، في الوقت الذي يسيطر مئات الآلاف من الوافدين على معظم الوظائف في الشركات العائلية والمساهمة والحكومية في السلطنة؛ إذ كانت الجهات التي تعاقبت على إدارة هذا الملف طوال العقود الماضية لم تحقق النجاح في تقديم حلول مبتكرة والتفكير خارج الصندوق لمعالجة هذه المشكلة المستعصية في هذا البلد.
فمنذ عهدنا بالصفوف الطويلة للباحثين عن عمل التي تنتظر أمام الوزارات والهيئات الحكومية المكلفة بالتوظيف منذ عقد التسعينيات حتى الآن، يجب الاعتراف بأن معاناة هؤلاء الشباب الذين اجتهدوا وحصلوا على الشهادات الجامعية أو الذين أنهوا الدبلوم العام ولم تتح لهم تكملة دراسة البكالوريوس في الجامعات العمانية، غير مسبوقة حاليًا، ولا يدركها إلا القليل من أصحاب القلوب الرحيمة من المسؤولين والتجار في هذا البلد؛ فالانتظار لعقد من الزمن دون وظيفة مثل المرض الفتاك؛ لأنه يذهب بأجمل سنوات العمر، فتلك طاقات وطنية مهدرة بلا ثمن، في زمن غاب فيه التكافل والرحمة بين الناس.
وكما قيل في سابق الأيام "دوام الحال من المحال" وإنه بعد العسر يسر، فمن حسن الطالع أن تعود البسمة والأمل إلى وجوه أبناء عمان من جديد، وذلك لصعود أسعارالنفط إلى مستويات غير متوقعة من البعض؛ فهذه القفزة الثالثة في تاريخ الذهب الأسود الذي ارتبط بالرفاهية والرخاء في المنطقة، فقد كانت البداية توقيف وحظر تصدير النفط العربي إلى الدول الغربية المساندة لإسرائيل في احتلالها للأراضي العربية خلال حرب أكتوبر 1973؛ إذ ترتب على هذه المُقاطعة العربية ارتفاع أسعار البترول إلى أضعاف مضاعفة من 7 دولارات للبرميل قبل الحرب إلى أكثر من 40 دولارا خلال بضع سنوات.
صحيح السبب المباشر للزيادة الحالية، هي الحرب التي تدور على الأراضي الأوكرانية التي تعرضت لغزو من جارتها روسيا التي تعد أكبر مصدر للبترول في العالم وثاني منتج له بعد الولايات المتحدة الأمريكية ولكن هناك العديد من خبراء الطاقة- بعيدا عن تداعيات هذا الحرب- قد توقعوا منذ 2021 صعود برميل النفط.
والسؤال المطروح الآن هل سنعتمد على النفط بشكل كلي مثل المرات السابقة؟! أم سيكون للمسؤولين في المنطقة منهجية أخرى؟
يبدو لي أنه قد يتم خلط الأوراق ونرجع للمربع الأول، في أعقاب الارتفاع في إيرادات النفط؛ فالقائمون على التخطيط الاقتصادي وصناع القرار في الدول النفطية التي تُعرف أيضًا بالدول المدمنة على النفط والتي كانت وما زالت يشكل النفط لديها الجزء الأكبر من الموازنات السنوية، اعتادوا على الطرق السهلة عند إعداد الميزانيات، ولا يفكرون في المستقبل، فهؤلاء يتربعون منذ عقود عدة على المجالس المالية، والوزارات السيادية التي ترسم السياسات الاقتصادية والمالية، وعلى الرغم من الحراك الاقتصادي المتمثل في وضع استراتيجيات تنويع مصادر الدخل في كل دول المنطقة، والتي عكفت خلال العقد الماضي على وضع خطط وتصورات بديلة للنفط أطلق عليها في سلطنة عُمان "رؤية 2040"، من المتوقع أن تسهم القطاعات غير النفطية فيها بالنسبة الأكبر من الناتج المحلي الإجمالي للسلطنة بنهاية الخطة، هذا إن أحسنا تنفيذ وإدارة موارد البلد، وكذلك كانت الدراسات القائمة عليها رؤية دقيقة. بينما انطلقت في المملكة العربية السعودية (رؤية المملكة 2030) وفي دولة قطر (رؤية قطر 2030). وتأتي هذه الخطط الاستراتيجة في جميع دول مجلس التعاون الست منذ استشعرت الحكومات الخليجية بخطر الاعتماد على مصدر أحادي غير مستقر، للدخل القومي وهو النفط.
لا شك أن القيادات العظيمة تظهر معادنها وإمكانياتها عند الأزمات الصعبة، فقد مرت على هذا البلد العزيز في السنوات القليلة الماضية ظروف استثنائية وكوارث وأزمات غير مسبوقة تتمثل في جائحة كورونا ثم انخفاض أسعار النفط وأخيرا إعصار شاهين، الذي ضرب سهل الباطنة في مطلع شهر أكتوبر الماضي، وقبل ذلك كله؛ ارتفاع الدين العام للسلطنة ليصل إلى 60% من الناتج المحلي الأجمالي مقارنة مع 5% فقط في عام 2014.
وعلى الرغم من كل ذلك أظهرت القيادة العمانية الرشيدة، ممثلة في ربان السفينة حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- حكمة فائقة ونظرة ثاقبة للأمور، ورباطة جأش، وسرعة في اتخاذ القرارات للاستجابة لمطالب المواطنين واحتياجاتهم في تلك الأيام الصعبة من تاريخ السلطنة.
في الختام.. وتزامنًا مع استبشار المواطنين بخبر ارتفاع أسعار النفط؛ إذ لامس سعر البرميل 140 دولارًا أمريكيًا خلال الأيام الماضية؛ وذلك لأول مرة منذ عام 2008، بينما سجل نفط عمان يوم الأربعاء الماضي أكثر من 127 دولارا أمريكيا، في الوقت الذي بُنيت موازنة عام 2022 للسلطنة على أساس سعر 50 دولارا للبرميل، ولكون أن هناك فائض من دخل النفط قد وصل إلى هذا المستوى الاستثنائي، فإنَّ الأنظار تتجه إلى القيادة الحكيمة في هذا البلد العزيز إلى تخصيص جزء من هذا الفائض من إيرادات النفط للباحثين عن عمل من الشباب الذين هم في قائمة الانتظار منذ أكثر من 10 سنوات من مخرجات الجامعات وحاملي شهادة الدبلوم العام الذين ذهب بهم قطار العمر إلى المجهول، وذلك من خلال التوظيف المباشر في القطاع الحكومي؛ رحمة بهم واستجابة لمطالبهم اليومية عبر منصات وسائل التواصل الاجتماعي.
إنَّ الوطن بحاجة لجميع أبنائه للمشاركة في عجلة التنمية ونهضة عُمان المتجددة، فترك هؤلاء لقدرهم المحتوم سوف يكون له تبعات وتأثيرات سلبية على الاستقرار والأمن الاجتماعي للمجتمع العماني.
أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري