علي الرئيسي
قيام روسيا بالهجوم على أوكرانيا أثّر تأثيرًا مُباشرًا على ارتفاع أسعار النفط والغاز، فقد تجاوزت أسعار النفط 130 دولارًا، كما ارتفعت أسعار الغاز في أوروبا بحوالي 70 بالمائة.
ورغم أنَّ العقوبات الغربية لم تستهدف صناعة النفط والغاز الروسية حتى الآن (باستثناء قرار الولايات المتحدة بحظر واردات النفط والغاز الروسية إلى السوق الأمريكية)، إلّا أن العقوبات جعلت المستوردين يبحثون عن المصارف التي من الممكن أن تمنحهم التسهيلات الائتمانية اللازمة لاستيراد النفط والغاز الروسي. وكان سوق النفط يعاني أصلًا من شح الإمدادات فيما تصدر روسيا حوالي 4- 5 ملايين برميل يوميًا من النفط، وتزود روسيا أوروبا الغربية بحوالي 35 بالمائة من احتياجاتها من الغاز الطبيعي، وتزود ألمانيا بـ50 بالمائة من احتياجاتها. إضافة إلى ذلك، امتنع كثير من سفن الشحن عن الاقتراب من الموانئ الروسية والأوكرانية.
لا شك أن الدول المصدرة للنفط ستستفيد من ارتفاع أسعار النفط، غير أن الدول المستوردة له ستدفع فاتورة باهظة لهذا الارتفاع، وهناك عدد من الدول العربية المستوردة للنفط ستُعاني بالفعل من فاتورة استيراد الطاقة، مثل لبنان، والأردن، وتونس، والمغرب والصومال.
والارتفاع الكبير في أسعار الطاقة سيؤدي إلى ارتفاع في معدلات التضخم والتي كانت مرتفعة قبل الأزمة، وسيصعّب ذلك من مهام البنوك المركزية؛ إذ إنَّ الأزمة ستجعل هذه البنوك تفكر مليًا قبل رفع سعر الفائدة، أو على الأقل سترفعها بنسب أقل وبفترات أطول؛ لأن رفع أسعار الفائدة الآن سيزيد من عدم اليقين حول النمو الاقتصادي.
لقد انخفضت معظم البورصات العالمية عند بداية الهجوم الروسي؛ حيث انخفض مؤشر ناسداك الذي تهيمن عليه شركات التقنية بنسبة 20 بالمائة، غير أنَّ أسعار الأسهم الامريكية عادت للارتفاع نسبيًا بعد ذلك. وفي أوروبا انهارت الأسهم بحوالي 3.3 بالمائة غير أنها ارتفعت مرة أخرى. وأوقفت موسكو التعامل في البورصة الروسية بعد أن انهارت أسعار الأسهم بنسبة 38 بالمائة، وانخفض سعر الروبل الروسي أمام الدولار الأمريكي تحت تأثير العقوبات الاقتصادية التي فرضها الغرب. وانخفضت العملة الأوكرانية والسندات الحكومية انخفاضًا دراماتيكيًا؛ حيث تساءل المستثمرون عمَّا إذا كان بمقدور الدولة تجنب الإفلاس السيادي.
ومن المتوقع بقوة أن تدفع الحرب في أوكرانيا بأسعار المواد الغذائية للارتفاع، وخاصة وأن العالم كان يعاني من ارتفاع الأسعار نتيجة للجائحة. وتوفر روسيا وأوكرانيا حوالي 30 بالمائة من صادرات العالم من القمح، و19 بالمائة من صادرات الذرة، و80 بالمائة من زيت دوّار الشمس. كما إن البلدين مصدران مهمان للأسمدة، وتوقف التصدير سيرفع من أسعار هذه المواد؛ فقد ارتفعت أسعار الخبز، نتيجة لارتفاع أسعار القمح. وارتفع سعر القمح في بورصة شيكاغو للسلع بنسبة 70 بالمائة، كما صعدت أسعار الذرة بحوالي 20 بالمائة، وهناك ارتفاع متواصل لأسعار زيت دوّار الشمس الذي تعتمد عليه كثير من الدول في توفير زيت الطبخ. وتشير تقديرات إلى أن الحرب ستؤثر بشكل كبير على الأمن الغذائي العالمي، وقد شهد العالم بالفعل ارتفاعًا كبيرًا في أسعار عدد من المعادن المهمة كمدخلات للصناعة.
إن الاقتصاد الروسي يمثل حوالي 5 بالمائة من الناتج المحلي العالمي، واقتصاد أوكرانيا يمثل نسبة أقل، لكن المحللين الاقتصاديين يتوقعون أن يكون تأثير الحرب ملحوظًا، خاصة وأن معظم دول العالم استنفدت الحيّز المالي خلال أزمة الجائحة، وتبقى السياسة النقدية التوسعية محل شك في ضوء ارتفاع نسب التضخم العالمية.
ومن المحتمل أن تتخارج بعض الاستثمارات من عملات وأسواق الدول الناشئة، وذلك للهروب إلى سلع وعملات وملاذات آمنة؛ كالاستثمار في الدولار والذهب والفرنك السويسري وحتى في العملات الرقمية. فعلى سبيل المثال شهدت مصر خروج ما يزيد عن مليار دولار بعد تخارج الكثيرين من استثماراتهم في السندات المصرية (بحسب تقرير لوكالة رويترز). فحتى قبل الأزمة كانت مصر تحاول جاهدة إبقاء الرغبة في الاستثمار في سندات الخزينة، وذلك بهدف خفض العجز في حسابها الجاري والعجز في الموازنة العامة وكذلك العمل على استقرار سعر الصرف، تحوطًا لاحتمالية رفع البنك الفيدرالي الأمريكي لسعر الفائدة. علاوة على أن الأثر المحتمل من هذه الحرب على السياحة المصرية سيكون كبيرًا، خاصة وأن السياح الروس يشكلون حوالي 10 بالمائة من عدد السياح الوافدين لمصر، بينما يشكل الأوكرانيون 3 بالمائة. وهناك اعتقاد بأن الدول الناشئة ستكون أكثر تأثرًا بالحرب، نتيجة لارتفاع أسعار المواد الغذائية والسلع المستوردة.
إذن.. ما الآثار طويلة المدى للحرب؟
بعد محاصرة الاقتصاد الروسي وشل النظام المصرفي والمالي من قبل الغرب، نتساءل: هل سينجح الروس في التغلب على هذا الحصار؟ خاصة وأن روسيا لديها احتياطيات كبيرة من العملة الأجنبية واستطاعت ان تنوع مصادر مدفوعاتها الى حد ما في السنوات الأخيرة. وهل سيضعف الحصار الاقتصادي والمالي استخدام الدولار كعملة مركزية للمدفوعات العالمية؟ وخاصة في ضوء خلق بدائل للمدفوعات العالمية من قبل الصين وروسيا ودول أخرى. كل هذه أسئلة مهمة للمراقبين والمهتمين.
وهنا في سلطنة عُمان من المتوقع أن ترتفع أسعار المواد الغذائية، خاصة وأن روسيا مصدر أساسي للواردات من القمح والذرة وزيت دوّار الشمس. والتبادل التجاري بين السلطنة وروسيا محدود؛ حيث بلغت الواردات العمانية من روسيا في عام 2020 حوالي 209.12 مليون دولار وهو مبلغ ليس بالكبير، بينما بلغت الصادرات العمانية إلى روسيا في عام 2018 حوالي 2.47 مليون دولار (حسب إحصائيات الأمم المتحدة). كما إن عدد السياح الروس ضئيل، والتبادل التجاري بين السلطنة وأوكرانيا محدود أيضًا. لكن مع استمرار الحرب سترتفع قيمة الواردات من أوروبا؛ وهي شريك تجاري مهم نظرًا لارتفاع أسعار الطاقة أحد المدخلات المهمة بالنسبة للسلع والخدمات، مما سيزيد من الضغوط التضخمية. وفي ظل غياب سياسة نقدية قادرة على احتواء التضخم المستورد، ستكون آثاره مدمرة على الفئات محدودة الدخل. صحيحٌ أن الإيرادات الحكومية من النفط والغاز سترتفع، لكن إذا استمرت السياسات المالية الحالية، من ضرائب ورسوم مرتفعة، دون النظر في دعم موجه ومحدد، فإنَّ الوضع الاقتصادي والاجتماعي سيضيف تحديات جديدة على الحكومة والمجتمع.
باحث في قضايا الاقتصاد والتنمية