الحرب.. الترنيمة البشعة

 

سلطان بن سليمان العبري

كان العالم وسيعاً وديعاً، وكان يلزم مئات بل آلاف السنين لسبر أغوار جماله من جهة، أو شروره وأخطاره من جهة أخرى.. مر الوقت بطيئاً وكان لا بد من خلاف ما، من وجهة نظر أو تصور خاطئ بسوء ظن أو من الغيرة كما حصل مع هابيل وقابيل لتحصل أول عملية قتل بريئة، فلم يعرف الجاني بعدها كيف "يواري سوءة أخيه" ثم تمرس الإنسان وتجبر بالحروب والقتل، بعدما صارع الطبيعة أولاً ممثلة بالخضار والفواكه وحاجته الأساسية في الأكل من السهل الممتنع مما حوله، ثم نما الإحساس وكبر بالأشياء وصار يقسمها لمفيد وضار.

النباتات كانت تشكل خطرًا ذاتيًا لابد أنه استعان بالقضاء عليها بالخبرة، فما هو ضار وسام لم يكن يجدي نفعا معه إلا الخبرة والعكس، وبات تناقلها هو السلاح المهم في النشر إن كان إيجابيا أوسلبيا، وبقيت الأشواك ولا زالت أكثر ما يعيق تنشق الورد والاستمتاع به!

بعد النباتات جاء الدور على الحيوانات لتشكل خطراً على الإنسان فوجب التخلص من الزواحف الضخمة كالتماسيح وغيرها بالبحار والديناصورات والزواحف الكبيرة في البرية جنبا إلى جنب مع الوعول والأسود والفهود والنمور، وكل ذلك مهد على ما يبدو للصراع مع الإنسان نفسه بعد النبات والحيوان.

لا توجد مراجع تاريخية ثابتة بخصوص معارك الإنسان الأولى، لعدم وجود كتابة وقراءة وما وجد على الكهوف من رسومات أوحت بأنَّ صراع الإنسان مع الحيوان كان الأشرس والأهم والأكبر، ويعتقد بأن الحروب والغزوات الكبيرة قد أخذت وقتا طويلا حتى تنشب، وهذا واقعي ومنطقي، فالمجتمعات كانت بحاجة لسنين حتى تتكون وتكبر وتتعلم القتال، وكان يتحتم وجود خصم ما، وتهديد بشكل أو بآخر.

وهذا لم يكن ليتم حتى تكونت القبائل وبات لزاماً عليها الدفاع عن نفسها، ثم كان على القبائل التي صارت دولا بعد تمارين كثيرة على حروب صغيرة هنا وهناك أن تنطلق شرارتها، وبالطبع كان وجود هدف ومبرر مهم جدا، ويغلب أن يكون السفر والتزاوج والرغبة في السيطرة على الكلأ والماء "الطعام والشراب" هما المبرر الأكبر لأي حرب، ويمكن اعتبار حرب طروادة التي كانت بين الإخائيين الإغريق الذين حاصروا مدينة طروادة وأهلها ودامت عشر سنين وهي واحدة من أشهر الحروب في التاريخ والسبب بسيط وهو تخليدها من خلال أشعار "ملحمتي هوميروس الإلياذة والأوديسة" اللتين تحدثتا عن بعض أحداث حرب طروادة، ففي الإلياذة رويت أحداث السنة التاسعة من الحرب وهي سنة غضب آخيل، وفي الأوديسة حُكيت الكثير من الأحداث السابقة للحرب إبان رواية حكاية عودة أوديسيوس ملك إيثاكا وأحد القادة في حرب طروادة.

وجود ممالك متفرقة كان يعني تقسيمها إلى ضعيفة وقوية، والرغبة بتكوين أعداء وأصدقاء "تحالفات" كان مهماً في الحروب التي انتشرت بين اليونان وإسبارطة وروما القديمة ثم بين الفرس والروم مرورا بالحروب الصليبية التي كان من الواضح أن هدفها السيطرة على بيت المقدس التي يمكن اعتبارها المعادل الموضوعي في الحياة للعقدة في الفن وخصوصا بالدراما، وهي أكثر وأشهر وأكثر شراسة من حروب داحس والغبراء أشهر حروب وهو ما يُؤكد أن أسباب الحروب يعود لنواتج إنسانية كالحقد والحسد والشهرة والمال، وهذه الحرب مع البسوس والفجار وبعاث من أطول الحروب التي عاشها العرب في الجاهلية.

مرحلة الإسلام

لم تعرف الكرة الأرضية هدفا أسمى للحروب كما هو في حالة نشر الإسلام؛ إذ أرسى الإسلام قواعد جديدة للحرب لا تزال ماثلة في قوانين ومعاهدات السلام في العالم، فهي قامت على أسس دينية لا رغبة في القتل والاستحواذ، ونتج عنها أخلاقيات جدية كتعليم الأسرى اللغة للمسلمين مقابل تحريرهم مثلا، ناهيك عن دعوتهم للدين بعد فرض أخلاقياته في التعامل معهم، حتى دخل أغلب المفروض قتلهم في الدين عن حب ورغبة، وهناك أمثلة كثيرة على التسامح خصوصا في فتح مكة وصلح الحديبية وفي التعامل مع السبايا وكبار السن والصغار وحتى الأشجار والحيوانات، وهي مرحلة واضح أنها لن تتكرر في الحروب لكن آثارها بالغة وعميقة ذلك أنَّ هدفها روحاني ديني وليس مالي اقتصادي أو استيطاني.

أشهر حربين

لم تعد الحروب بحاجة لدوافع كبرى لتقم، لكن الغالب أنها نواتج تراكمات تحتاج لفعل يمكن تقييمه لاحقا وبعد فوات الأوان، فاغتيال ولي عهد النمسا فرانز فرديناند مع زوجته من قبل طالب صربي يدعى غافريلو برينسيب في 28 يونيو عام 1914 أثناء زيارتهما لسراييفو، كان كافياً لتقوم الحرب العالمية الأولى، لكن الدارسين يرصدون جملة من الأسباب غير المباشرة، من أبرزها توتر العلاقات الدولية في مطلع القرن العشرين بسبب توالي الأزمات، كأزمة البلقان، والصراع الفرنسي الألماني حول الحدود، إضافة إلى نمو النزعة القومية داخل أوروبا وتطلع بعض الأقليات إلى الاستقلال.

ناهيك عن تزايد التنافس الاقتصادي والتجاري بين الدول الإمبريالية لاقتسام النفوذ عبر العالم والسيطرة على الأسواق لتصريف فائض الإنتاج الصناعي والمالي، والتزود بالمواد الأولية، فضلاً عن دخول الدول الإمبريالية في تحالفات سياسية وعسكرية، أدت إلى سباق تسلح بين الدول المتنافسة التي رفعت من نفقاتها العسكرية.

وللتذكير فإنَّ مصادر "ويكيبيديا" تبين أن الحرب العالمية الأولى قامت بين دول الحُلفاء (أمريكا، وروسيا، وفرنسا، وبريطانيا، وإيطاليا، واليابان) ودول المركز (ألمانيا، وتركيا، والنمسا، وهنغاريا) واستمرّت هذه الحرب بين الأعوام 1914 -1918م، وقد عُرِفت باسم الحرب العظمى؛ إذ تخللها الكثير من الأحداث، والمجازر، والخراب، ويُعدّ انهيار العائلات الإمبراليّة في ألمانيا، وتركيا، والنمسا، والمجرّ، وروسيا، واحداً من نتائج هذه الحرب، إضافةً إلى اندلاع الثورة البلشفيّة، وزعزعة الأمان في أوروبا، هذا عدا عن أنها مهّدت الطريق للحرب العالميّة الثانية التي نشبت بين دول المحور (ألمانيا، وإيطاليا، واليابان) ودول الحلفاء (الولايات المتحدة الأمريكيّة، والاتحاد السوفييتي، وبريطانيا، وفرنسا، والصين) واستمرّت أحداث هذه الحرب بين الأعوام 1939- 1945م.

وهي أكبر حربٍ تاريخيّة، إذ سقط فيها حوالي 60 مليون قتيل، كما مكنّت هذه الحرب الاتحاد السوفييتي من مدّ نفوذه نحو أوروبّا الشرقيّة، ومهّدت للشيوعيين أن يمتدّ حكمهم إلى الصين. كما تم السيطرة في هذه الحرب على اليابان، وفي السادس من آب سنة 1945م، دُمّرت مدينة هيروشيما بالكامل، بسبب سقوط قنبلة ذرية عليها، ما أدى إلى موت حوالي 70000 شخص، ولم يقتصر الأمر على ذلك، إذ تم إسقاط قنبلة أخرى على مدينة ناغازاكي في التاسع من أغسطس من نفس العام، لتقضي على ما يقارب 35000- 40000 شخص.

وقد أخذ العالم قسط كبيرا من الراحة بعد هاتين الحربين وتغيرت مفاهيم اجتماعية واقتصادية وحتى أدبية وفنية قبل أن تصبح هناك مفاهيم سياسية والتي يمكن القول إنها نامت لتصحو الرغبة في التغير الذاتي في فنون الأدب والفن وظهور ما يسمى بموجبة "الهبيين" الرافضين للحروب والراغبين في السلام ولهذا كان منطقيا أن يصبح هناك ما يسمى بـ"الحرب الباردة" مطلع الثمانينات؛ أي بعد نحو 4 عقود من السلام أو التوتر الذي لم يفضي لشيء؛ حيث ساد التوتّر على العلاقات بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكيّة بعد انتهاء الحرب العالميّة الثانية، بالرغم من تحالف الدولتين خلال سنوات الحرب، إذ اعتبر السوفييت تأخّر الولايات المتحدة بدخول الحرب العالمية الثانية، سبباً لسقوط العديد من القتلى الروس، كما خيّم على أمريكا التوتر من الحكم الشيوعيّ بقيادة الزعيم ستالين، ما أدى لاتّباع سياسة الاحتواء اتجاه تطلّعات روسيا في التوسّع، حيثُ اتجهت العلاقات بين القوّتين إلى إبرام العهود والاتفاقات، بالرغم من اختلاف أيديولوجيا الدّولتين.

كلمة أخيرة

اشتهر عن الفنان العالمي روبيرتو دي نيرو أنه لا يدخل لتمثيل دور إلا بعد أن يبحث عنه لتقمصه ويعايشه، وفي أواخر أفلامه وكان يتعلق بقاتل مأجور سألته صحفية لماذا لم تقم كعادتك بتتبع حالات ومُعايشة لتتقن الدور، فأجابها بطريقة ساخرة: "وددت ذلك.. غير أنَّي وبعدما ذهبت ليومين لأماكن قتلة ومجرمين توقفت لأني لاحظت أنَّ القتل بات سهلا ولم يعد مقصوراً على من يوشمون على أيديهم أو لهم ظروف خاصة ومواصفات جسدية مُعينة"، فبات الطبيب قاتلا والمهندس والرياضي وغيرهم ولم يعد هناك إطار للقتلة يوضعون فيه وهو ما يؤكد قول رسولنا الكريم عن آخر الزمان "لا يدري القاتل فيما قتل ولا المقتول فيما قتل".

تعليق عبر الفيس بوك