علي الرئيسي **
لكي نفهم سياسات روسيا الحالية، وبالذات سياسات الرئيس فلاديمير بوتين، من المهم الاطلاع على فكر الفيلسوف الروسي ألكسندر دوجين. وهو شخصية جدلية سواء في روسيا أو خارجها.
وتأتي أهمية دراسته من كونه حسب قوله إنه هو المفكر وبوتين المنفذ، وإن كل ما قامت به روسيا منذ وصول بوتين إلى السلطة قد نظر له دوجين في كتابه "جوبولتيك" والذي صدر قبل وصول بوتين إلى السلطة، وفي كتبه ومحاضراته الأخرى؛ حيث إن إعادة "الإمبراطورية الروسية" أو حسب تعبير دوجين "الأوراسية"، يتطلب في المقابل إنهاء الحرب في الشيشان، والتدخل في جورجيا، وإعادة القِرم للسيطرة الروسية، ومن ثمَّ التدخل في شرق أوكرانيا (دونباس ونيفوروسيا) ووضعها تحت النفوذ الروسي، إذا لم يتم ضمها، وهو المخطط ذاته الذي نفذه بوتين منذ مجيئه للسلطة، وبالمناسبة دوجين ممنوع من دخول أوكرانيا منذ 2007.
وألكسندر دوجين من مواليد 1960 في موسكو، وهو من أكثر الكتاب الروس شهرة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وهو فيلسوف وبروفيسور ومحلل سياسي واستراتيجي، كان من المؤسسين للحزب البلشفي الوطني، وللجبهة البلشفية الوطنية، وللحزب الأوراسوي. وعمل دوجين مستشارًا لعدد من الشخصيات المهمة في القيادة الروسية، منهم جننادي سيليزنوف رئيس الدوما (البرلمان الروسي). وهو مؤلف لأكثر من 30 كتابًا، في مختلف التخصصات، من الثقافة الشعبية إلى الميتافزيقيا، من الفلسفة إلى اللاهوت، من العلاقات الدولية إلى السياسات المحلية. يجيد أكثر من 9 لغات أجنبية. حاليا محاضر في جامعة موسكو.
ويقول إسرائيل شامير، في مراجعة لكتاب النظرية الرابعة، إن دوجين باحث وممارس للتصوف، ويذهب إلى الكنيسة واعتنق الأرثوذكسية المسيحية، ومؤمن بنظرية المؤامرة، وقد صقل أدواته النقدية بالاطلاع على كتابات جان بودريار وجاي ديبورد (راجع علي الرئيسي في جريدة الرؤية)، إضافة إلى ذلك فهو مناضل شرس لتحرير الإنسان من استبداد الليبرالية بقيادة أمريكا. ويعتقد دوجين أن ثنائية اليسار واليمين لم تعد ذات معنى أو قد عفا عليها الزمن، وما هو مهم هو الامتثال، أو معارضة النظام العالمي الجديد. ودوجين يعتبر نفسه معارضا ومقاوما للنظام العالمي الجديد الذي تهيمن عليه الليبرالية.
دوجين، ليس سياسيًا بطبيعته، وإنما يفضل أن يكون المستشار الحاذق للسلطة، كما كان الحال مع كونفوشيوس. وضع الخطوط العريضة لإعادة إحياء الإمبراطورية الروسية أو الأوراسية بقيادة بوتين. ويقال إن بوتين استعمل كلماته ورفض أفكاره، هو يزعم غير ذلك (راجع مقابلته مع علي الظفيري على قناة الجزيرة).
وفي كتابه "جيوبولتيك" يضع دوجين الخطوط العريضة لمستقبل روسيا، وقد وقف بشدة إلى جانب الرئيس في صراعه مع الليبراليين؛ حيث يعتقد أن الليبرالية هي العدو الأول لروسيا.
أما بالنسبة للأوراسية، فالبروفيسور دوجين لا يشير إلى روسيا فحسب، ولكن إلى معظم جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة، وذلك لكي تصبح قطبًا منافسًا للغرب بشكل عام وللولايات المتحدة بشكل خاص. الأوراسية من وجهة نظره هي عالم متعدد الأقطاب، ويشمل تحالف كل من روسيا، والصين، والهند، وإيران.
في كتابه "النظرية الرابعة"، يقول البروفيسور دوجين، إنَّ الأنظمة السياسية في العصر الحديث يُمكن حصرها في ثلاث؛ الأولى: الديمقراطية الليبرالية، والثانية هي الماركسية، والثالثة هي الفاشية. ومصدر هذه النظريات هو الحداثة الغربية. والأخيرتان لم تعدان حسب تعبيره لهما وجود، فقد دمرت الفاشية وهي في مقتبل عمرها. أما الماركسية فقد شاخت وانتهت لكبر سنها. بينما أعادت الليبرالية اختراع نفسها فيما يعرف ما بعد الحداثة، فهي لم تعد تعتبر نفسها أيدلوجيا، وإنما أمر واقع وحتمي (نهاية التاريخ، فوكوياما).
يجد العالم نفسه اليوم في واقع ما بعد سياسي؛ حيث إن الفرد أصبح منساقًا نحو قيم الليبرالية لدرجة لم يعد قادرًا على التمييز؛ إذ إنَّ ثمَّة آيدولوجية تُهيمن عليه، وبالتالي الفكرة الليبرالية صارت تحتكر جل الجدل السياسي في العالم.
لقد حاولت الليبرالية الإيحاء بأنَّ السياسة قد انتهت؛ لأن خصومها اختفوا من الساحة، وبالتالي في احتكارها هذا تعمل على تدمير كل ما يُميز أنظمة الحكم وثقافات الشعوب الأخرى. وبناءً عليه ما يحتاجه العالم للانعتاق من هيمنة الأيدلوجيا الليبرالية أو ما بعد الحداثة، هو "النظرية الرابعة". ويذكر دوجين تأثره بكل من رينيه دوجو وجوليس إيفولا؛ وهما كاتبان تقليديان معارضان بشدة للحداثة والفكر العلماني، كما يذكر تأثره بالفيلسوف الإيراني السهروردي (مقابلة دوجين مع زينب الصفار على قناة الميادين).
و"النظرية الرابعة" تستخدم مفاهيم وأدوات الحداثة ضد هيمنة الحداثة، وذلك في سبيل عالم أكثر تنوعًا، وضد عملية التسليع ومجتمع الفرجة التي تتصف به المجتمعات ما بعد الحداثة. بالنسبة لروسيا يزعم بروفيسور دوجين أنَّ معظم الروس يرفضون الليبرالية والعولمة التي هي أدوات للهيمنة الغربية. إن خيار النظريات الشمولية قد فشل؛ فالنظرية الرابعة بالنسبة للروس ليس خيارًا، وإنما ضرورة وجودية مستخدمًا تعبير الشاعر الإنجليزي ويليام شكسبير "نكون او لا نكون.. ذلك هو السؤال".
إن كتاب النظرية الرابعة لا يقدم نظرية سياسية متكاملة، لتحل محل النظريات الأخرى، ولا يطرح طرحًا راديكاليًا ضد علاقات الإنتاج الرأسمالية، كما هو الحال مع الماركسية، ولكنه فقط يشير إلى الاتجاهات العامة لخلق التطبيقات العملية. و"النظرية الرابعة" لا تهتم بتفسير العالم ولكن بتغييره، إنه ضد فكر الليبرالية التي تحاول تحرير الإنسان من قيوده سواء كانت تلك القيود دينية أو عائلية أو من التقاليد الموروثة أو ضد الأبدية. والنظرية الرابعة عليها أن تناضل ضد مركزية الغرب الليبرالية، مثل ما كانت الحرب العالمية الثانية حملة موجهة ضد النازية. هي ليست نظرية سياسية، بقدر ما هي عقيدة نضالية لبناء عالم مختلف، عالم متنوع وتقليدي، وبالتالي تقوم من خلال نضالها هذا بتشكيل الفكر السياسي والتطورات السياسية خلال السنوات المقبلة.
ورغم أن النظرية الرابعة؛ هي سلاح لمحاربة الليبرالية، فهي تشمل على بعض من الشذرات الإيجابية، ففي حين يتقبل دوجين الحرية فإنه يرفض الفردانية. ويقول نعم للحرية الإنسانية ولكن لا للحرية الفردية. ويقوم بنقد لاذع للحريات الفردية فيقول إن الليبرالية تقر الحقوق الفردية لأنها سقيمة، إنها حقوق الرجال الصغار. أما حرية الإنسان فهي حرية الرجال الكبار ( تعبير نيتشوي غامض)، لذلك الحرية لهؤلاء يجب أن لا تكون محدودة. ويقول دوجين إن النظرية الرابعة بالنسبة لروسيا هي الأوراسية، أما بالنسبة لإيران فهي ولاية الفقيه، وقد يكون بالنسبة للصين هو حكم الحزب الشيوعي؛ أي في جوهرها هي معارضة لتعميم مفاهيم ما بعد الحداثة.
** باحث في قضايا الاقتصاد السياسي