ناصر أبوعون
منذ شقت صرخته الأولى في المهد طبقات الليل الساجي في بيت "العود" بقرية "الجعفرية" بولاية سمائل الفيحاء؛ وكرّت معها مِسبحة العمر، واستضوأت حبّاتها النورانية من مشكاة الزهد والمناجاة والوصل مع حبل الله الذي لا ينقطع مدده عن أصحاب الأنوار المُخْلَصِين، حتى تتابعت آثاره العلمية تترى، وتُسابِقُ أخبارُه الزكيّةُ أنفاسَه إلى أجلٍّ مُسمَّى في واحد ثمانين عاما قضاها الشيخ القاضي هاشم بن عيسى بن صالح بن عامر الطائي السمائليّ في طلب العلم والاشتغال بالولاية والقضاء.
لقد تهيأت السُّبل وتعبّدت الأسباب، وانبسطت مضايق الحياة للشيخ القاضي قبل مجيئه للدنيا فتحدّرَ من شجرة نسب تثمر بالعلم، وأورقت واتسعت رقعة ظلالها، ودنت داليتُها على هامات طلاب المعرفة، وضمّت في رحابها حفظة الدّين، وحراس العقيدة؛ فاسْتَضْوَأَ مصباحَه من أسراجِها المنيرة التي لا تخبو؛ فكان من حُسن الطالع أن شرفت صحيفة نسبه بثلة من العظماء النجباء؛ وهذا ما أورده الشيخ المكرّم الدكتور عبد الله بن راشد السيابي له في كتاب (معجم القضاة العمانيين) مترجما له؛ فذكر أنّ [جدّه لأبيه هو (الشيخ القاضي سعيد بن عامر بن خلف الطائي البطاشي المسكدي)، وكان حيًّا إلى سنة 1264هـ وهو مساعد (للسيد مهنا بن خلفان البوسعيدي) في تحرير كتابه الشهير "تهذيب الأثر في تلخيص جامع بن جعفر"، وأحد أساتذة (الشيخ المحقق سعيد بن خلفان الخليليّ)، وأخو جده هو (حمد بن سعيد بن عامر بن خلف الطائي العقريّ النزويّ)؛ كان حيًّا إلى سنة 1297 هـ وهو أحد رجال (دولة الإمام عزان بن قيس)، وعمُّه (الشيخ محمد بن عامر بن سعيد الطائي) مدرس (الإمام الخليليّ) علومَ النحو والعربيّة، ووالده (صالح بن عامر بن سعيد الطائي؛ قاضي مسقط، وجدّه من ناحية أمه (العلامة القاضي الزاهد سعيد بن ناصر بن عبد الله بن أحمد بن عبد الله بن محمد الكندي)]؛ فارتقى شأنه، وطاب معدنه، وورث النبوغ والنباهة من أصلابهم، كما جاء في أحاديث نبوية كثيرة؛ نذكر منها ما أخرجه الحاكم في (المستدرك)، وابن ماجه في (سننه) وابن أبي شيبة في (المصنف)، والدارقطني في (سننه)، والبيهقي في (السنن الكبرى)، والقضاعي في (مسند الشهاب)، وأبو نعيم في (أخبار أصبهان)، وابن أبي الدنيا في (النفقة)، والبيهقي في (شعب الإيمان)، أبو الشيخ الأصبهاني في (أمثال الحديث): قال رسول الله – صلى الله عليه وسلّم - [(تخيروا لنطفكم وانظروا أين تضعونها، فإن النساء يلدن أشباه إخوانهن وأخواتهن) (وانظر في أي نصاب تضع ولدك فإن العرق دساس)، (الناس معادن والعرق دساس)].
فلمّا شبّ الشيخ هاشم الطائي، تقلّب في مندوحة من العلم؛ تحرّض الناكل على المثابرة، وتحثّ من أضلعته الخطوب على المجاهدة؛ فكان بين صلاة الأعصر والعشاءات يختلف إلى مساجد وزوايا (نزوى)، وبيضة الإسلام؛ يتربع بين أشياخها، وأقطاب علومها ويكرع مُصَاصةَ فكرهم؛ فإذا ما شقّ الفجر أغشية العتمة ولّى وجهه شطر مجمع أفلاج العلوم جدّه سعيد بن ناصر الكندي فقرأ عليه وأخذ عنه، ومن مطلع شمس الضحى إلى الزوال كان يتقلب بين جيوب وأعمدة مدرسة الإمام محمد بن عبد الله الخليلي إمام العلم والسلام.
فقد كان الشيخ القاضي هاشم الطائي ممن وَلِجُوا (حصن نـزوى) مع ثُلة من الطلاب النابهين الملازمين للإمام والمرجع الدينيّ محمد بن عبد الله الخليلي والآخذين عنه مجمع علومهم، وكانت لهم غرف خاصة للمبيت والدراسة تُسمى (صحار)؛ فتهيأت له سُبل طلب العلم من شجرته الأصيلة، وارتوى من مصادره، ونهل من مخطوطاته بصحبة من طلاب العلم كانوا يتربّعون في جلستين يوميا بحضرة الإمام؛ ما بين العشائين ومن بعد صلاة الفجر إلى طلعة الشمس يقرأون على يديه الكتب والآثار العلمية للأقطاب والشيوخ ومن على شاكلتهم من أصحاب التصانيف والتآليف.
وفي تكملة استطرادية عن حياة الشيخ القاضي هاشم الطائي زاد وأفاض تلميذه بمعهد القضاء (الشيخ المكرّم الدكتور عبد الله بن راشد السيابي) فسرد مسيرة حياته من نشأته إلى وفاته، واستفاض في التأريخ لنسبه، وسيرته العلمية في لقائه مع (الأستاذ عبد الله العبري) عندما حلَّ ضيفًا على برنامج (عظماء) بقناة (الاستقامة) الفضائية مستندًا في شهادته إلى كتاب شقائق النعمان للشيخ محمد بن راشد الخصيبي؛ ومقتطفا منه الخلاصة فقرأ: "ولما كان جده لأمه الشيخ العلامة سعيد بن ناصر الكندي مقيما بنزوى قاضيا ومفوّضا من قِبل الإمام الخليلي درس أيضا في نزوى لأنه كان معه في بيته؛ فكرع من تلك البحور الزاخرة وارتوى من مناهلها الصافية العذبة علًّا ونهلا، ثم رجع من نزوى وهو مطلع بما فيه الكفاية من علم الدين والفقه، فرقّاه علمه إلى منصب القضاء".
فقد وجد الإمام الخليليُّ في تلميذه الشيخ هاشم الطائي - بعد أن استعمله بالاختبار - نبوغا زاهرا، وعلما وافرا، وحزما صالحا ومصلحا، وفقيها جامعا للأحكام والأول فعقد له بين منصبي (الولاية والقضاء) في (سمائل)، ثم (بدبد)، وهذا نص رسالة الإمام: (بسم الله الرحمن الرحيم.. من إمام المسلمين محمد بن عبد الله إلى المشايخ كافة؛ أهل سرور وما حولها، ونفعا وما حولها، وفنجا وما حولها.. سلام عليكم وبعد،، فإنّا جعلنا الولد هاشم بن عيسى قاضيا عليكم، فانهوا إليه أموركم وقضاياكم، وأطيعوه ما أطاع الله وسوله فيكم وأعينوه فيما استعانكم عليه، وائتمروا بينكم بالمعروف، وكونوا عبد الله إخوانا وعلى الخير أعوانا.. والسلام عليكم.. حُرّرَ يوم التاسع عشر من ربيع الأول سنة 1366.. كتبه بيده منصور بن ناصر الفارسيّ).
فلمّا وصل الشيخ هاشم إلى (سمائل) بعث له الإمام الخليلي رسولا وأخبره أنه: "سيأتيك زعيمان من عظماء القبائل فاحكم بينهما، ولا تكن كسوطٍ بين سيفين" ففطن وأخذ بالحزم وهيأ عسكر الحصن وأوعز إليهم: (إذا تمّنعَ الخصمان عن قبول حكم القضاء أودعهما القيد)؛ فلما جلس المتخاصمان بين يديه، حكم بينهما فقبل أحدهما وتمنّع الآخر؛ فأشار للعسكر بسجنه غير أن الرجل أيقن عاقبة حبسه فأذعن وامتثل). وهذا الموقف يحيلنا إلى أهم سمات شخصيته القضائية والولائية فقد كان الشيخ رغم ما أضلعته الخطوب لا يشخص همه عن متابعة شؤون الناس، ويجزل للفقراء في العطاء، ويصحر لهم بالأعذار حين يستفيضون إليه، فالراكس عهده ضرب على يديه، وقمعه وردّه إلى صوابه، ونازعه القياد لم يسترسل معه ولا يغمطه حقه بلا أثرة ولا محاباة للمظلوم، حميّ الأنف يأبى الضيم لا تهزّ نخلة عدله الأهواء؛ ضرب على قلبه جُنّة فصانه من كل رأي متبّر، وكل لحن في القول يورث الزلة ويثلم الأمانة، فنجا من كل بائقة داهية، وخرج من منصب القضاء، وغادر الدنيا الفانية غير مثلوم، ولم يعلق بأكمامه خسف أو ضيم، وهجر الجدال في غير علم، وآثر الزهد ولم يخلد إلى الدنيا ولم يحتلب زينتها، وتملّصَ من غوايتها.
واحد وثمانون عاما عاصر فيها الشيخ القاضي هاشم بن عيسى بن صالح بن عامر الطائي ثلاثة سلاطين وإمامين؛ (الإمام الرضي محمد بن عبد الله الخليلي، والإمام غالب بن علي الهنائي) ورقّاه علمه وحكمته القضاء في (سمائل وبدبد) بوصيّة من الإمام الخليليّ، وتقلّب ما بين (1328هـ - 1412 / (1910م - 1991)؛ في بحر الحوادث والنائبات التي صقلت تجربته، ونحلت روحه وسلخته من زخرف الدنيا وزينتها، وعاش ثلث حياته الأول معاصرا للسلطان تيمور بن فيصل بن تركي (1331 – 1350/ 1913 – 1932)؛ ثم عاصر في ثلث عمره الأوسط السلطان سعيد بن تيمور بن فيصل، وكان مقربّا من مؤسسة الحكم وتولّى القضاء في مسقط وما جاورها (1350 – 1390/1932 – 1970)، حتى إذا طلعت شمس ثلث عمره الأخير، وأشرقت شمس النهضة المباركة على عُمان باعتلاء السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور (1970 – 2020) فتولى القضاء له وساهم مع بني جلدته وعشيرته في إقامة دعائم الدولة العصرية الحديثة؛ حيث تكررت زيارات السيد سعيد بن هلال البوسعيدي له في بيته للتشاور معه والاستئناس برأيه في تأسيس المنظومة القضائية الحديثة، وتطوير النظام القضائي في سلطنة عُمان.
وللشيخ هاشم الطائي مطارحات ومراسلات مع شيوخه وتلاميذه تَبِينُ عن ملكة وأسلوب رصين وصل من البلاغة شأوا عظيما، ومن الجِدَّة والطرافة شأنا مبينا، يتوسل بفصيح الألفاظ، وينأى عن الغموض ومخاضات المجاز، عباراته مرسلة، ومعانيه مقصودة متأصلة، وصوره بيانية شفافة متسعة الرؤى تتنوع ألوانها وتختلف مبانيها، وتأتلف مقاصدها واضحة غير مستوحشة، ونسوق هنا بعضا من رسالته إلى (الشيخ إبراهيم بن سعيد بن محسن بن زهران بن محمد بن راشد العبري قاضي الرستاق، ثم نزوى ووالي عِبري وقاضي في مسقط والمفتي العام لسلطنة عمان في عام 1373هـ إلى أن استشهد سنة 1395هـ.)، وهذه الرسالة مثبتة برقم (36) في كتاب: [الآثار العلمية لسماحة الشيخ إبراهيم العَبري]: ومثبتة أيضا في [موسوعة عمان: الوثائق البريطانية السرية] يقول فيها: "بسم الله الرحمن الرحيم.. لحضرة الشيخ العلامة الجليل الهمام المخلص إبراهيم بن سعيد العبري – سلمّه الله وأبقاه وحفظه ورعاه – سلام عليكم مليا، ورحمة الله بكرة وعشيا، على الدوام شكور مراعاتك في عافية وخير، الحمد لله لا نزال بخير الأحوال، ما هنا من علم سوى السكون؛ القيظ ناشر أعلامَه، والشتاء قوّض خيامَه، وزهر الحر فتح أكمامَه. وكتابك الكريم شرفني وفهمته، فكان لدي أعزُّ واردٍ وأبركَ وافدٍ؛ لأنه دليل قاطع على صفائك، وبرهان ساطع على وفائك. وعتابك مقبول والسماح من جنابك مأمول، وما قطعت كتبي عنك إلا لحيث مرة أسمع عنك بـ(عِبري) وطورا بـ(الحمراء) وأخشى أن تتسرقف (تضيع) الكتب لأنها مظنة الضياع وإلا فأنت نُصب العين حاضرا وصفيك حيث يقول الشاعر:
إنا على العهد لا بعدٌ يغيرنا
على الوداد والأيام تنسينا
///
لا تحسبوا نأيكم عنا يغيرنا
إذ طالما غير النأي المحبينا
هذا وأخبارنا خير وسرور الأحوال سكون، والسلطان بـ(ظفار) فقد انتهت مسألة (البريمي) وصارت تلك المقاطعة للسلطان وقد تكفلت الدولة البريطانية بتخريج السعودي منها، وقد شرَّفنا بهذه المحكمة قاضينا الشيخ سيف بن حمد الأغبري، وترخص (استقال) الأخ سيف بن محمد الأخزمي وسافر إلى الكويت وقد بلغنا ما كان بـ(عـِبري) وكدرنا ذلك الأمر لله سبحانه، وكيف الآن موقفك أيها الشيخ(؟)فإني في هِمَّة من ذلك. أرجو تصريح هذه المسألة".
يتبع...