سعيدة بنت أحمد البرعمية
أنا الطين، ابن التراب أخو الغبار، لي نصف الوجود والنصف الآخر لبقية المخلوقات، نكرتني بعض الأشجار، تجاهلت عطائي وفضلي عليها، وخصائصي الغنية بمختلف العناصرالعضوية الخصبة؛ فأنا بالإضافة إلى تغذيتها، أخوض حرباً باستمرار من أجلها؛ فأدحر الرياح وأردها خائبة كلما شنّت حربا لاقتلاعها؛ لقد غرّها علوها عدّة أمتار فوقي، ربما شعرت أنها تجاور الشمس التي في الحقيقة هي بعيدة عنها؛ فأنساها غرورها جذورها المتشبثة بي.
اقترب مني صخر جلمود، وسألني لما أنت حزين؟
أجبته، أشعر وكأني أعيش في المنفى بلا أهل ولا قوة، تسكنني الغربة ويجتاحني الغياب، وأصبت بالكثير من الخيبات وسكتات الأمل، وصفعات النكران، وطالني الكثير من الحرمان.
قال: بل أنت الحاوي والمحتوى، الذي يتناوبان على رعايته الشمس والقمر، والذي بوسعه حوى الماء والجبل، والحياة له تسجد وتقترب، أنت الوطن لا المنفى، وأنت العزيز لا الذليل، وأنت العطاء لا الامتناع. قلتُ : إن كنتُ مازلت كما تزعم، فلم ما حولي ينكرني، حتى المطر عاف زيارتي، وباتت بعض أجزائي جدباء لا تنبت نبتا ولا زهرا، الجدب شبح مخيف يلتهمني، والتصحر فارس مغوار يهزمني.
امتعض الصخر قائلاً: بل أنت الأصيل الغني الوفي، ستمضي السنون العجاف بما حملت، وتضع حملها الآثم أو تجهضه بعيدا عنّا، لن تلد أو تتناسل بيننا. قلتُ: كأنك واثق ممّا تقول، قال: أقسم بالتراب المسلوب وما عليه من البرتقال الحزين، إني على ثقة ويقين. قلتُ: لقد نكأت جراحي، بقسمك هذا؛ فلا ألم كألم التراب، فعندما يئن أو يتأوه أو حتى يتذمر، فإن البراكين تعتمل فيه.
لقد قست عليّ الشمس وأنكرتني الأشجار، ولم تكن الرياح بي رحيمة، لكنّي لا أزال مؤمنا ورشيدا، وفيّا بالرغم ممّا بي محيط، ولا أدري إلى متى سأتجلّد بهذه الصفات.
واكبتُ قديما كلّ الحضارات، وشمخت منّي العمارات التي تباهت بإطلالة شرفاتها على البحار والأنهار والجبال، أنا الذي وُجِدتْ الأرض من أجلي، الحاضرالذي سِجلاّته ترفض الغياب، أصبتُ بالجدري والحصبة والكوليرا وكوفيد19؛ وظلّ جسدي حيّا يقاوم الشلل؛ فأُنشدتُ للتغلّب على الإعاقة أنشودة المطر، أنا الصلصال الذي سجدت له ملائكة السماء، وحظي بعناية ربّ الأرباب؛ فتنكرّ لي البعض أسوة بالشيطان، لا فضل لي على إبليس، لكنّ فضلي على من ينكرني قوي متين، كما تعرضتُ للإساءة العظمى من الطين ذاته، وهي الأشدّ ألماً كونها إساءة من نوع الجنس، وذلك حين قال عني الشاعر إيليا أبوماضي: " نسي الطين ساعة أنه طين حقير"
يا صديقي الجلمود، إنَّ ماعُرف عن الطيور أنها تشرب الماء وتأكل الحبوب؛ لكنّي شاهدت ذات صباح، غرابا يهبط بسرعة مُلفتة، عندما شاهد علبة مشروب غازي من نوع "DEW"، اقترب منها وأدخل منقاره فيها ورفعها للأعلى، وسكب ما تبقى منه في فمه، فيبدو أنه أصبح يعرفه جيدًا. إنّ ذلك الطير الذي يُحلق بعيدا في مسارات السماوات والأرض تطلّع للخروج عن المألوف وتعرّف على شراب يدلل به ذاته كلما عثر عليه، في المقابل يُهان ويُلام الطين ويُوطر إن تطلّع للأفضل!
قصيدة الطين بالرغم ممّا حملت من دلالات عظيمة وجماليات وإبداع، جعلها تُصنّف ضمن أجمل ما كتب من الشعر في العصر الحديث، إلا أنها وصفتني "بالحقير" وببعض مالا يليق، حيث تناول الشاعر نموذجا من بعض نسلي، من نسي أصله وطفق ينشر الفساد ويتكبّر، لكن الدلالة نفسها تسيئ لي وتحتقر أصلي وتنسى فضلي. إنّي لم أخلق لأهان وسماتي وسقفي يأبيان التحجيم.
جلمودي العزيز، لقد بقيتَ طويلا جانبي تشدُّ أزري وتكفكف دمعي، آمنت معي بقدراتي ووصفتني بالثبات والتوازن، بالرغم من أنَّ هناك من يستصغرني، أخبره يا صاحبي أنّي لست حقيرا، وحقي سآخذه ولو بعد حين.