المدينة الفاضلة

 

خليفة بن عبيد المشايخي

khalifaalmashayiki@gmail.com

 

قد يعلم كثيرون وقد يجهل مثلهم أن رحمات الله تتنزل على الأرض حينما نتخلى عن الأنانية وحب الذات، وعدم الاستحواذ على العديد من النعم عمومية كانت أو خاصة لأنفسنا فقط، دون جعل فاقديها لهم نصيب منها، أو عدم التفكر في عدم وجودها معهم، خاصة تلك النعم التي ائتمننا الله جلَّ جلاله عليها وهي تخص الغير، وإنما نحن قائمون عليها مقام الأمين والحافظ لها لهم، من باب أن الله تعالى تبارك في علاه، شرفنا واختارنا من بين خلقه وعباده، بتصريفها وحفظها وتوزيعها لأهلها ومستحقيها.

وإذا ما نظرنا إلى الراحمين، فسنجد بأن الله تعالى حبيبنا وموجدنا والمتنعم علينا وغافر ذنبنا وساتر عيبنا ومنور دربنا، يرحمهم برحماتٍ شتى، مقابل رحمتهم وحبهم لبني جنسهم، وإيثارهم لغيرهم سواء كانوا من العامة أو الخاصة، فقيرا أو غنيا، محتاجا أو ضعيفا، معدما أو منعما، مهمومًا أو محزونا، مديونا أو ميسورا، وقد قال المصطفى صلى الله عليه وسلم "ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء".

وحينما تنعدم الرحمة في قلوب البشر، تحل محلها العداوة والبغضاء والكره، وإذا سادت الثلاثة الأخيرة في دنيانا ومعاملاتنا ومعاشراتنا، فإنَّ ثمة شحناء وسخطاً وحياة كريهة ستلحق بالكثيرين، وثمة معاناة ستسود هذا الكون بأسره، وستملأ هذا الكوكب وأمة الثقلين التي عليه، وبالتالي فإنَّ عليك وزر وإثم ذلك، ناهيك عن أنَّ النعم ستتغير والنقم ستتنزل، والعافية ستتحول، والمحن ستهبط، والعاهات والأسقام والأمراض والأوجاع والأوبئة، ستعم وستتوغل كما هو حاصل اليوم، وكل سيئ سيتوسع، وكل فساد سيتفرع.

أيها الحبيب إنَّ الإحساس بالآخرين والشعور بهم نعمة عظيمة من نعم الله سبحانه وتعالى علينا لم تعطَ للجميع من البشر، فالله جلَّ جلاله اصطفى واختار لذلك ناس معينين من خلقه، جعل قلوبهم رقيقة بيضاء سخية محبة للخير، على أياديهم تقضى الحوائج، وبخدماتهم ومساعداتهم وعونهم لمن يلجأ إليهم ويطرق أبوابهم، تتقوى الوشائج، ولله تعالى تبارك في علاه عباد اختصهم أنظر إلى هذا القول وإلى هذا الحديث فيه خاصية، إذ يقول إن لله عباداً اختصهم بقضاء حوائج الناس فحببهم في الخير وحبب الخير إليهم وهم الآمنون من عذاب الله يوم القيامة.

وهؤلاء الناس نحسب أنهم بإذن الله تعالى ورحمته، سيدخلون الجنة بلا حساب ولا سابق عذاب نظير ما قاموا به للعباد من تفريج هم وتنفيس كرب، فهؤلاء قلوبهم لم تكن غليظة وقاسية، ونفوسهم ليست عاصية، فهم عباد طيبين لطفاء وكرماء مع الناس الذين حوائجهم كثيرة، وكل يقضيها بحسب درجته ومسؤوليته ومكانته ومنصبه ومهامه.

إنَّ هناك من هو مسؤول عن قضاء حوائج أمة بأكملها بعدما استرعاه الله إياها، وهناك من هو مسؤول عن قضاء رهط وزمر ونفر من الناس في نطاقات معينة، وحتى الذي لا يملك شيئاً، فليس معذورا في أن يكون امرء خير ولو بالكلمة، ألسنا نعلم ذلك القول "قل خيرا أو اصمت" وخير النَّاس أنفعهم للناس.

حقيقة أود أن أقول شيئا، وهذا القول ليس قولي وهو أنَّ الكيّس من دان نفسه، والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني، وهنا أسأل هذا الإنسان الضعيف العبد والفقير لله وأبدأ بنفسي أولا وأقول له: يا أخي الكريم تفصلك عن يوم القيامة والوقوف بين يدي الله، أنفاسك فقط وخروج روحك من جسدك، فمن مات قامت قيامته، وبعدها بسويعات سيهال عليك التراب، وأنت من؟! ذاك الذي كان يُقال عنك في دنياك فلان الفلاني بألقابك ومناصبك ومناقبك ومسمياتك ورتبك ودرجاتك وأيا كنت، والذي كنت تسكن القصور والدور وتملك في الشرق والغرب.

يا أخي والله ستسأل عن كل صغيرة وكبيرة وستقول "مالِ هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها"، والمثل العماني يقول "ياليتني كنت في طرف الأسنان ولا في طرف اللسان"، ترى إذا كنت في طرف اللسان بالسوء والشر وتقصير منك في حق الله وعباده، فاعلم أنك في خطر سيذهب بك ليس من حيث كنت، بل إلى الهاوية.

إن إنشاد المدينة الفاضلة في الحياة الدنيا مستحيل بعينه، لكن هذا لا يعني أن لا نكون مثلما يريدنا الله جل جلاله، ووصيتي انظر إلى غيرك أين هم الآن، ولا تدع الكلام يثار حولك أو يقال عنك.

انأ بنفسك عن مواطن الشبهات والزلل والأخطاء، فالله يمهلك ولا يهملك، وعين ما شافتك ما لامتك، فكن في مواطن لا تستهين فيها بأوامر الله، فالناس كلهم هالكون إلا العاملون والعاملون كلهم هالكون إلا العالمون والعالمون كلهم هالكون إلا المخلصون والمخلصون على خطر عظيم، فكيف بك إن جاهرت بالذنب، وتساهلت في حمل الأمانة وثقل المسؤولية.

أيها الحبيب تفقد أحوال من أرهقته الحياة وكن في حياتك كلها عونا لمن ينخاك، وتذكر ليس بقوتك وبحولك أنت في نعيم، وإنما ذلك كرم الله عليك، ليس لأنك الأفضل والأصلح، ولكن ليختبرك وليبتليك ما أنت فاعل وعامل بما أعطاك آلله جل جلاله إياه، فكن عند حسن الظن دائما.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة