صرير مثل ضحكة كارلينيا

 

يونس البوسعيدي

يحكي ابن أبي أصيبعة أنَّه وصل لدمشقَ تاجرٌ أعجمي، ومعه نسخة من شرح كتاب "منافع الأعضاء" لجالينوس، وكانت تلك النسخة هي أول نسخة تصل الشام من ذلك الكتاب، فاشتراها ابن أبي أصيبعة، فكتب إليه عزُّ الدين بن السويدي قصيدة يَمدحه بها ويطلب منه إعارة الكتاب المذكور، فيقول:

وامنُنْ فأنت أخو المكارمِ والعُلى * بكتابِ شرح مَنافعِ الأعضاءِ

وإعارةُ الكتبِ الغريبةِ لم تَزَلْ * مِن عَادة العُلماء والفُضلاءِ

فبعث له الكتاب بعد أن عاهده على الحفاظ عليه وإعادته بعد نسخه، كان العالَمُ يفرح بصدور كتاب، ويطلبه بالغالي والنفيس، ويحتفي به، بل ينقده كما ينقد الصيرفي الدرهم والدينار، وينتج عن ذلك ثراء علمي ومعرفي غزير، وكل هذا بلا فرقعة كاذبة لا تحسب الشحمَ فيمن شحمه ورمُ.

ما الفرقعة التي ستكون في هذه النسخة من معرض الكتاب دورة بعد كورونا؟!

يُفترض أن نطور فرقعاتنا كذلك، ففرقعات الكتب التي تكسر تابوهات الدين والسياسة والجنس يجب عليها كذلك أن (تتسطح) وتبحث لها عن "فانشيست" حتى يفرقعها بشكل جماهيري أكثر.

ومع الفرقعة والتسطيح أتساءل من هو الكاتب الذي سيرهقنا بإعلان أنَّ كتابه كان أكثر الكتب مبيعًا؛ في لهاث محموم نحو الشهرة والبيسة، ونحن في الزمن الذي تُستخرج فيه البيسة بشقّ الأنفس، لكنها تُنثَر على السطحي الأكثر فرقعة، حتى انزلق بعض الكتّاب لهذا الميدان وقد أطربهم طبل الفرقعة بهالتها الكاذبة، بل تقول لنا مقاطع (الفرقعات السطحية) في السناب شات وتيك توك وإخوتهم وسلالتهم أن كل ذلك مثل المهرج كارلينيا.

الفرقعات هي التي تمسح الزبد عن الكتب التافهة، وهذا رأيي الذي أخالف فيه عباس محمود العقاد الذي يقول بعدم وجود كتب تافهة، وهذا يُذكّرني بذلك الكاتب الذي أصدر روايته الأولى أو الثانية وحشر لها العالمين في مواقع التواصل الاجتماعي ترويجًا، وكنتُ أذهبُ لدار الغشام في المعرض، وصادفتُه وهو يحوم من بعيد يُراقب من يشتري كتابه؛ بل أخبرني الموظف المسؤول في دار الغشام أنَّه كان يذهب لهم ويُعيد وضع روايته في مكان تسقط فيه العين، وبعد فترة حشر الناس في مواقع التواصل الاجتماعي لماذا لم تفز روايته في مسابقة أدبية وقد حصدت أكثر المبيعات في المعرض؟!

الفرقعة والتسطيح يسريان في العالم وصار مُسلّما بهما كما هو الحال في أي شيء، وقد يسبب مغصا حادًا في المعدة حين أجده في الكتاب، ويزيده أن يأتي لك صديقٌ ساخرًا فيقول "إن السماء تسَع الكل"، كما أنني شربتُ حبّتي "أدول" كي لا أدخل في جدال سفسطائي حول تقييم أنّ الكتاب تافهٌ أم غير تافه، وكيف أقيّم تفاهة الكتاب من عدمه، ولماذا أمطّ الجدال وقد بدأت تتشكل قناعة في داخلي أن معرض الكتاب برمّته تحول من عرسٍ ثقافي إلى فرقعة وقتية للكتب، ينشرُ فيها المشتري كيس كتبه على صفحته في الإنترنت وقد يهمل قراءتها لأيام أكثر من مجموع صفحات الكتب التي اشتراها، كما ستتبرقش صفحات الإنترنت بحفلات التوقيع للإهداء المدفوع قيمته، وهلمّ جرا، ويحتملُ السيلُ زبدا.

أشعر أنَّه في هذه الفرقعات يغيب جوهرُ الكتاب، أو الكتاب الجوهريّ وإنْ حضر ألف كتاب، فكأن الكتاب صار موضة يجب أنْ تتأبطه مثيلات "ناعومي كامبل" التي قد تلبس في ليلة عرض الأزياء قماشًا مبهرج الألوان وبأغلى الأسعار لكنه لا يستر غير الشقوق من جسدها، بينما ذلك كتاب لا يُحرك هباءةً في الأرض لولا تلك الفرقعة الناعومية، ففقدنا الكتاب الجوهري الذي بقدرته وقدْره يحرك العقول فيكوّن نهضة فكرية وثقافية وعلمية يُعيد لبلداننا العربية قوتها، فقوة العِلم هي أول القوى التي يجب أن تُستعاد.

رحم الله زمانًا كان الكتاب إذا صدر، مثل الملك لو خرج بموكبه، له قيمة وجلال.

تعليق عبر الفيس بوك