د. عبدالملك بن عبدالله الهِنائي
باحث في الاقتصاد السياسي وقضايا التنمية
قيل إنَّ شخصًا كان له دينٌ على النبي محمد صلى الله عليه وسلم يستحق السداد بعد انقضاء أجل مُتفق عليه بينهما، لكن ذلك الشخص جاء إلى النبي يطلبُ دَينه قبل موعد سداده، فقال له النبي "لم يحِنْ الأجل بعد"، فردَّ الشخص الدائن قائلاً للنبي "إنكم لمُطُلٌ يا بني عبدالمطلب"، أي تماطلون في السداد، وقد استاء الصحابة الحاضرون من تصرف ذلك الشخص فهموا بمنعه وإبعاده عن المكان، فقال لهم النبي: "دعوه فإنَّ لصاحب الحق مقالاً".
تلك كان مُقدمة لإبداء رأي حول ما يشتكيه عدد كبير من الأفراد والمؤسسات من طول الإجراءات؛ سواء في المؤسسات الحكومية أوالخاصة، ومع أنَّ الكثيرين يأملون ويتوقعون أن إدخال الحوسبة أو الرقمنة، لا سيما في القطاع الحكومي، سيقصِّر من طول الإجراءات ويسهل من تعقيداتها، لكن يبدو أن ذلك وحده غير كافٍ، إما بسبب عدم دراية مستويات مختلفة من المعنيين ببعض النظم والأعراف أو بسبب عدم قدرة بعضهم على البت في بعض المطالب أو اتخاذ القرارات المناسبة بشأنها، أو بسبب أن بعض القوانين والتعاميم تعيق أو تحول دون التطبيق الكامل لنظم الحوسبة والرقمنة أو الاستفادة منها. ولا تقتصر الشكاوى من تأخر الإجراءات وتعقيداتها على جهة واحدة أو اثنتين، بل تمتد ليشمل جهات عديدة.
نذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر، القرارات المتعلقة بإصدار سندات ملكية الأراضي والأملاك الموروثة التي مضى زمن طويل على تملكها والتصرف فيها. فبالرغم مما قد يبدو من تسريع في إنجاز بعض الأمور في هذا القطاع، إلا أنه صاحبَ "الإنجازات" التي تحققت اتخاذ قرارات أدت إلى إضاعة حقوق ثابتة وتعطيل مصالح كبيرة لعدد ليس بقليل من المواطنين. وللتدليل على ما نقول أن تلك القرارات قد أدت إلى إضاعة حقوق ثابتة، نشير إلى ما قاله معالي وزير الإسكان والتخطيط العمراني، فيما يتعلق بطلبات المواطنين إصدار سندات ملكية لأملاكهم، وهي طلبات تم تقديم بعضها منذ حوالي خمسة عشر عاماً أو يزيد؛ حيث قال معاليه في الأسبوع الماضي إن الوزارة أصدرت، أو"ملّكت" كما قال، 8800 سند ملكية ورفضت 7500 طلب، وهو ما يعني أن الوزارة رفضت ما نسبته 46% من مجموع الطلبات. وتلك لعمري مشكلة؛ إذ لا يعقل أنَّ كل تلك النسبة من الطلبات التي تقدم بها المواطنون هي إدعاءات وافتراءات لا أساس لها من الصحة. ولما كان هذا المقال غير مناسب للدخول في تفاصيل هذا الموضوع، فإنني أقتصر هنا على الدعوة لإعادة النظر فيما تمّ رفضُ إصدار سندات ملكية له، وليس في المراجعة أو التراجع عن خطأ غضاضة على أي طرف، لأنَّ الرجوع إلى الحق خير من التمادي في غيره.
هناك أيضًا التأخير الذي يحدث في تعيين الباحثين عن عمل، رغم توفر عدد كبير من الفرص في مختلف الجهات، بما في ذلك جهات حكومية لديها شواغر عديدة، وهي بحاجة إلى شغلها للمساعدة في تسيير أعمالها وتحقيق أهدافها. ومن الأمثلة على ذلك التأخير أيضاً ما يحدث عند طلب التصديق على الشهادات العلمية للطلبة العُمانيين الذين يدرسون في الخارج، الأمر يضيع على بعض الخريجين فرص عمل متاحة أو يؤخر تعيينهم فيها، وقد وصل الأمر في بعض الحالات أن فترة إجراءات التصديق على الشهادة قد زادت أو قاربت فترة الدراسة، كما حصل عند طالب درس الماجستير في الخارج وكانت فترة دراسته تسعة أشهر. ومما لا شك فيه أنَّ الإسراع في التصديق على شهادات الخريجين وتعيين الباحثين عن عمل له أثر إيجابي كبير على مختلف المجالات، سواء كانت أمنية أو سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية.
ومثال آخر على طول الإجراءات وتعقيدها ما يُعانيه بعض أصحاب الأعمال والمتعاقدون مع الحكومة أو الموردون لها؛ حيث يشتكون من تأخر بعض الجهات الحكومية في صرف المستحقات أو الدفعات النقدية الأولية المتفق عليها معهم، الأمر الذي يضطرهم إلى اللجوء إلى البنوك للاقتراض، وهو ما يزيد من التكاليف ويُقلل من هامش الربح الذي قدروه عند تقديم عروض التوريد أو تقديم الخدمة، وقد أدى انخفاض هامش الربح وزيادة التكاليف إلى إقفال بعض الأنشطة وخروجها من السوق.
وإلى جانب موضوعات الأراضي والشهادات والعمل والمدفوعات المُستحقة للمقاولين، هناك أيضًا طول فترات انتظار المرضى للحصول على موعد للعلاج في المستشفيات الحكومية، وهو الأمر الذي يضاعف من معاناة المرضى وأسرهم، ويضطر الكثير منهم إلى تكلف السفر للعلاج خارج البلاد. وفي ذلك تكاليف اجتماعية واقتصادية كبيرة على القطاع العائلي وعلى الاقتصاد الوطني.
وتمتد الشكوى من طول الإجراءات وتعقدها إلى الشركات، وأذكر هنا على وجه التحديد التعقيدات التي تواجه أصحاب الأعمال والمستثمرين عند تقدمهم إلى البنوك، خاصة عند اضطرارهم للحصول على ما يُسمى برسائل الاعتماد أو الضمانات البنكية، أو ما شابه ذلك من الخدمات المصرفية. وقد سمعت من عدد من المستثمرين وأصحاب الأعمال أن تعقيدات البنوك والنظام المصرفي هي أحد أسباب اضطرار بعضهم إلى الخروج إلى بلدان أخرى لفتح مكاتب أو للاستثمار فيها، وهو أمر يضعف الاقتصاد الوطني ويقلل من فرص العمل المتاحة.
لذلك كله يجب الاستماع إلى رأي أصحاب الأراضي والأملاك فيما انتقص من حقوقهم، وتفهم تبرم المرضى وهم ينتظرون دورهم لمقابلة الأطباء في المستشفيات، وعدم الضيق ذرعًا بتعالي أصوات الباحثين عن عمل عندما تتعالى، وعدم الاستغراب من تذمر المستثمرين وأصحاب الأعمال إذا ألحوا أو أظهروا لجاجة في طلباتهم، فهؤلاء جميعًا أصحاب حق، و"لصاحب الحق مقالا".