د. محمد بن عوض المشيخي
أجمعت دراسات علمية عدة على أهمية تقليل ساعات العمل في المكاتب والمصانع وأماكن ارتباط الموظفين بالدوام الرسمي في مختلف دول العالم، وذلك بهدف رفع الإنتاج اليومي وتجويد نوعية العمل والوصول به إلى التميز والإبداع، وتشجيع الموظفين على استغلال ساعات تواجدهم في العمل في مضاعفة الجهد والتركيز على الكيف وليس الكم، المتمثل في الساعات الطويلة التي يقضيها الموظف بدون مُبرر أو فائدة في المؤسسات التي تدفع له الراتب فالساعات الطويلة التي تمتد في بعض المؤسسات إلى أكثر من سبع ساعات تشكل قلقا وتوترا وإحباطاً وقلة إنتاجية.
وكشفت بعض الدراسات التي طُبقت في الوطن العربي أن معدل إنتاج الموظفين في اليوم هو 17 دقيقة فقط من أصل 8 ساعات. أما في بريطانيا، فقد خلصت دراسة حديثة إلى أن هناك 5 ساعات يوميًا لا يُستفاد منها بأي حال من الأحوال، وهذه الساعات المُهدرة بسبب انشغال الموظفين في مواضيع أخرى بعيدة عن العمل، كمطالعة المواقع الإخبارية على الإنترنت وإجراء اتصالات هاتفية بالعائلة أو الأصدقاء وتبادل الرسائل والتدخين وشرب الشاي؛ مقابل ثلاثة ساعات إنتاج في اليوم للموظف الذي يعمل في الشركات والوزارات المختلفة في هذا البلد الأوروبي الذي يُعد من النماذج المعروفة في الحوكمة وفن الإدارة الحديثة والإنجازات الاقتصادية والصناعية. ولا شك أنَّ تقليل ساعات العمل سوف يكون له مردورد نفسي إيجابي بالنسبة للموظف، كما إن تقسيم ساعات اليوم بين العمل والراحة والاستجمام والأسرة ومنح المواطنين مساحة كافية لقضاء وقت أطول في البيت سوف ينعكس على تماسك أفراد الأسرة العمانية، وكذلك المقيمين على تربة هذا الوطن العزيز، الذي يستحق دائمًا الأفضل.
من المؤسف حقًا أن يتمحور تفكير المسؤول في بلدنا وتكون أولويته وهدفه الأسمى في تطبيق نظام البصمة في الحضور والانصراف، والتي أصبحت في كل وزارة وهيئة- حتى في المناطق البعيدة خارج مسقط- علامة للنصر والارتقاء لضمان تواجد الموظف في مقر العمل في أوقات الدوام الرسمي، ثم يأتي التفكير بالإنتاج كعنصر ثانوي. ونظام البصمة انتقل إلى معظم شركات القطاع الخاص؛ إذ يتم احتجاز العامل أو الموظف من الصباح حتى وقت المغيب بين الجدران الإسمنتية دون مبرر ولا أحد يلتفت إلى ما تم إنجازه؛ بل التركيز ينصب على التزام الموظف بالحضور والانصراف في نهاية الدوام.
إن اختصار ساعات العمل في القطاع العام والخاص لا يُمكن أن يؤثر بأي حال من الأحوال على الإنتاج، بل سوف يشجع الموظفين على المثابرة وإنجاز العمل بأسرع وقت مُمكن، كما أن الوزارات والشركات ستوفر جزءا كبيرا من الطاقة الكهربائية وفاتورة المياه والمشروبات الساخنة التي تقدمها في المكاتب للموظفين، وكذلك تحافظ على استهلاك الأثاث ووقود السيارات والمكالمات الهاتفية التي يستخدمها البعض من المكاتب الحكومية، هذا فضلاً عن تخفيف الزحمة وتكدس السيارات في الطرق، تقليل التلوث في الأماكن العامة والمحافظة على البيئة بشكل عام. يجب الاعتراف بأن هناك وظائف ذات طبيعة خاصة وتخصع لأنظمة مرتبطة بوزارات وشركات معينة مثل الأطباء والمدرسين والإعلاميين وغيرهم والذين يتطلب عملهم ساعات أطول، وكذلك يخضعون لنظام الورديات في أوقات مختلفة يتطلبها الدوام في تلك المؤسسات؛ فهؤلاء يجب أن يكون لهم نظام مختلف يتناسب مع طبيعة وظائفهم وواجباتهم اليومية.
أتذكر عند التحاقي بهيئة التدريس في جامعة السلطان قابوس، كان نصاب الأستاذ الجامعي ما بين 15 ساعة 18 ساعة تدريسية في الأسبوع، لكن مع التطورات التكنولوجية والذكاء الاصطناعي في المؤسسات والشركات عبر العالم، ومحاولة تطوير التعليم الجامعي وتجويده وتشجيع الهيئة الأكاديمية على إجراء البحوث والتحضير الجيِّد للمحاضرات؛ انخفض نصاب عضو هيئة التدريس في هذه الجامعة التي تعد بيت خبرة رفيع في السلطنة، إلى 12 ساعة تدريسية في الأسبوع فقط.
يجب تذكير الجميع بأن نظام العمل قد تطور عبر القرون، فكانت صرخة العمال المُطالبين بتقليل ساعات العمل في أوروبا في أعقاب الثورة الصناعية من 17 ساعة في اليوم إلى 8 ساعات قد وجدت من يتعاطف معها من بعض الحكماء في الدول الرأسمالية التي تستغل جهد العمال وأجمل سنوات عمرهم مُقابل ثمن بخس لا يتناسب مع ساعات العمل الطويلة. وفي الأربعينيات من القرن الفائت أقر مجلسا الشيوخ والنواب الأمريكي تشريعًا يحدد ساعات العمل بأربعين ساعة في الأسبوع على مدى 5 أيام، ليصبح، ذلك معيارًا عالميًا منذ ذلك الوقت.
خليجيًا.. طبقت إمارة الشارقة في دولة الإمارات العربية المتحدة اعتبارًا من يناير الماضي 2022، نظام العمل الجديد الذي يقلص أيام العمل إلى 4 أيام فقط؛ لتكون 8 ساعات يوميًا من الإثنين إلى الخميس، بينما أعلنت المملكة العربية السعودية قبل بضع سنوات على لسان وزير الخدمة المدنية أن إنتاجية الموظف الحكومي لا تزيد على ساعة عمل واحدة فقط يوميًا. ولذا باشرت المملكة الأسبوع الماضي دراسة تقليل أيام العمل في الأسبوع إلى 4 أيام عمل و3 أيام إجازة، وقد سبقتها في ذلك مملكة بلجيكا التي طبقت نظام الأربعة أيام عمل مؤخرًا.
وفي الختام.. يبدو لي أنَّ الوقت مُناسب لتطبيق هذه التجارب الجديدة التي اعتمدت على بحوث مسحية وتجارب عملية حول العالم، فالذي يُناسب السلطنة في هذه المرحلة؛ هو تقليص ساعات العمل في القطاع الحكومي إلى 5 ساعات عمل؛ بدلًا من 7 ساعات طوال خمسة أيام في الأسبوع، بينما تصبح ساعات العمل في القطاع الخاص 6 ساعات بدلًا من 8 أو 9 ساعات، والفترة واحدة دون انقطاع أو تجزئة وتكون في العادة في الفترة الصباحية.
أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري