علي بن سالم كفيتان
رنَّ هاتف مكتبي، وكان على الطرف الآخر المدير العام، وقال لي: "معاليه عنده في المكتب وزين لو تمرنا"، سألته هل مطلوب تجهيز أي بيانات أو معلومات لموضوع ما؟ قال لي بعد أن سأل معاليه "لا.. بس شرفنا".
حضرت للمكتب وسلمت عليهما، كانت ظفار تجمعنا نحن الثلاثة قبل أن يصبح الرجل وزيرًا وللأمانة لم أجد أنَّ المنصب غيَّر في الرجل شيئا غير أنه متقد للعمل ومهتم بكل تفاصيل الأمور وتغلب عليه صفات حميدة، قلّما تجدها في من تدثّر برداء المعالي. كانت لنا زيارة ميدانية لموقع وردت منه بعض الشكاوى لمعاليه، وبدون ترتيب مُسبق مع أصحاب المنشآت التي تعمل هناك، فعلمت أنَّ معاليه يريد أن يرى الحقيقة كما هي. وفور دخولنا لموقع الاستقبال طلب معاليه اللقاء بالمسؤول الأول في هذه المؤسسة، وفي بضع دقائق خرج لنا ذلك المسؤول مُسرعاً، وكاد يسقط على الدرج، وقبل السلام قال لمعاليه "كان تخبرنا معاليك"، ردَّ عليه "أردت أجيكم وأعرف بنفسي حقيقة بعض البلاغات التي وردت لمكتبي عنكم". وفورًا دخلنا إلى المكتب الفخم وتقاطرت علينا الحلوى والقهوة في ظل ارتباك واضح من مُوظفي المؤسسة، وبعد نقاش لم يدم طويلًا خرج معاليه واتصل بوكيل البيئة، وقال له أنا داخل المؤسسة- وذكرها بالاسم- وهي مخالفة يجب وقف خطوط الإنتاج فورًا، فمهما كانت الشركة كبيرة أو مُهمة إلّا أنَّ حياة الناس أهم. وخرجنا وصاحب المؤسسة يتبعنا حتى المواقف مُطالبًا بإعطاء مُهلة لتصحيح الوضع، فقال له معاليه "راجع الجماعة"، مشيراً إلينا!
كان معاليه يقود السيارة بنفسه وقال لي: "كيف نختصر الطريق لوجهتنا الثانية.. ما عندنا وقت"، وفي الحقيقة لا أنا ولا المدير العام نعرف الوجهة الجديدة للرجل وأمام حيرتنا، قال: "الصحراء..."! هنا ارتسمت الكثير من علامات الاستفهام على كلينا، فأشرت عليه أن نصعد عن طريق قفطوت، وكانت طريقًا ترابيًا آنذاك، ولم يسبق للرجل أن طلعها من قبل، وفي الوسط اضطر لاستعمال الدفع الرباعي لوعورة الطريق، وعندما وصل لوسط العقبة ترجَّل معاليه من سيارته، واتصل بوزير النقل وقتذاك، ووصف له وضع هذا الطريق، وكيف لا يتم صيانته أو حتى سفلتته. واسترسل طويلاً في الحديث حول أهمية وجود منفذ آخر ممهد لمنطقة الجبل من هذه الناحية، ولم يخلو الحديث من بعض الكلام الحاد أحيانًا. وفي النهاية قال معاليه "نحن راح نعد الخرائط ونرسلها لكم، ونأمل أن لا نضطر لرفع الموضوع لمقام مولانا السُّلطان وأن يرى الناس الشارع عمّا قريب". أتوقع أنَّ وزير النقل في حينه أدخل في شأن لم يكن مُستعدًا له، وفور وصولنا إلى ثمريت اتصل وزير النقل وذكر أن الأمر سيُعالج في القريب العاجل.
طلب مني معاليه أن أنتبه للبندقية التي كانت في الخلف من طراز "إم 16" من النوع الصغير، وذكر لي أنها معمَّرة وجاهزة، فقال له المدير العام الجالس بجواره "معاليك وليش البندقية؟" ردَّ عليه "نحن رايحين منطقة صحراوية وراح نقطع مسافات كبيرة والأمان طيب". وبعد الظهر وصلنا للموقع المطلوب الذي تديره الوزارة، وهناك وجدنا المهندس منصور يعمل بجد في هذه الصحراء الحارقة لا تكاد ترى سوى عينيه، بينما المعدات تعمل في كل الأرجاء، والعمال يقومون بمهامهم على أكمل وجه. ولم يتفاجأ المهندس مدير المشروع؛ بل استبشر مُرحِّبًا واعتذر بأدب جمٍّ عند عدم السلام علينا، لما يعلوه من غبار ووحل من جراء حفر بئر بدأت تتدفق للتو في هذه الصحراء المُقفرة. توجه إليه معاليه وسلّم عليه واحتضنه وسلّم على رأسه، قائلاً "أنتم من يحق لنا أن نفخر بهم"، وأخذنا في جولة استمرت عدة ساعات بين مواقع المشروع، ثم قال "لو خبرتنا معاليك كان رتبنا غداء يليق بمقامكم"، ردَّ عليه معاليه "غدانا هو هذا الإنجاز العظيم بشمهندس". وسأله عن آخر يوم زار فيه أسرته فأجابه قبل أسبوعين، وهنا التفت الوزير للمدير العام، وقال متسائلاً: "كيف كذا؟"، وسأل المهندس منصور "كم نحتاج بحيث يبقى الواحد منكم لأسبوع واحد فقط في الصحراء"، قال: "نحنا حاليًا اثنين نحتاج ثالثًا". وعلى الفور كلم سعادة وكيل المياه وقال له "أريد مهندس ثالث لهذا المشروع في غضون يومين يكون في ظفار"، وعلى الفور ردَّ سعادته "أبشر معاليك".
في طريق العودة، طلب مني القيادة وجلس إلى جانبي، بينما المدير العام تحوّل إلى الكرسي الخلفي. دخلنا بعد العصر إلى الجبل ثانية، قادمون من الصحراء، فقال معاليه "زين ندخل على عين من عيون المياه التي تتبع لوزارتنا قبل الغروب"، فدخلنا لعين جرزيز، وهناك وقف معاليه وسأل المدير العام "ماذا تفعلون بهذه العيون؟"، ردَّ عليه: "المعنيون يأخذون بعض القياسات الشهرية لكل العيون والآبار ويرفعونها في تقارير للوزارة"، فردَّ معاليه متسائلًا: "وماذا يستفيد المواطن والزائر من هذه البيانات؟"، هنا برر الرجل أهميتها العلمية، ورد قائلاً "المواطن بيشوف عملكم إذا تمت صيانة هذه العيون وتمَّ مد المياه للتجمعات المجاورة ووضع الأحواض لسقي الماشية، والزائر إذا وجد منشآت خدمية سيحس بالفرق، وسيلمسون دور الوزارة، أما البيانات قد ترست الحواسيب والملفات وهي مُهمة، لكن الإنسان أهم".
وقبل الغروب أجرى معاليه اتصاله الأخير بوكيل البلديات يطلب منه إرسال فريق الأسبوع المقبل لتطوير العيون المائية الرئيسية وسفلتة الطرق إليها مع توفير بعض المنشآت الخدمية؛ كونها تتبع الوزارة، وتحجج سعادته بالسياحة، فقال معاليه بحزم "السياحة ما بيعملوا شيء..."، فقال سعادته: "أبشر معاليك". وهنا نشير إلى أنَّ بعض المواطنين اعترضوا على بعض الأعمال في إحدى العيون وكان معاليه في زيارة لاحقة لظفار، فطلب مقابلتهم، وكنت حاضرًا اللقاء، واستمعتُ إلى الحديث الذي لم يخل من سعة صدر وحنكة وكرم. وبعد حديث وديّ انصرف المشايخ راضين كل الرضا.. أتدرون لماذا؟ لأن معاليه قال: "جميع مطالبكم مجابة".
وللأمانة التاريخية لم يخرج معاليه من منصبه إلا وجميع المنشآت المخالفة ركّبت أحدث المعدات التي تضمن سلامة وصحة النَّاس، وطريق قفطوت قد تمت سفلتته، ومشروع النجد تم الانتهاء منه، وفتحت طرق مسفلتة للعيون الرئيسية، وأجريت الصيانة لها، إضافة إلى تشييد بعض المرافق الخدمية عليها.
وفي الختام.. أرجو من الله أن يمنح الشيخ عبدالله بن سالم بن عامر الرواس طول العمر والحياة الهانئة، وأن يجزيه خيرًا عن كل عمل قدمه لوطنه.
"عَلى قَدرِ أَهلِ العَزمِ تَأتي العَزائِمُ // وَتَأتي عَلى قَدرِ الكِرامِ المَكارِمُ".