علي الرئيسي
باحث في قضايا الاقتصاد والتنمية
شهدت دول مجلس التعاون الخليجي تغيرات مهمة في اقتصاداتها في الفترة الأخيرة، وتقوم هذه الدول مؤخرا باتباع سياسات اقتصادية كمحاولة لخفض اعتمادها على النفط وجعل اقتصاداتها أكثر تنوعًا.
ومع تهيؤ الولايات المتحدة للخروج من منطقة الشرق الأوسط أو على الأقل خفض وجودها على الأرض، فإن دول الخليج وبالذات كل من: السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر، تحاول جاهدة أن تؤثر بشكل جليّ في التطورات التي ستحصل في المنطقة. وتقوم هذه الدول الثلاث بالذات بإيداع مليارات الدولارات في البنوك المركزية المصرية والسودانية واليمنية، وذلك في سعيها نحو استقرار أنظمة هذه الدول. وتُعد دول الخليج هي الشريك الاقتصادي الأول للدول الآسيوية؛ حيث بلغ التبادل التجاري بين دول الخليج والصين في عام 2019 حوالي 180 مليار دولار، وجزء كبير من احتياجات الصين من الطاقة مصدرها دول الخليج. والعلاقة مع الصين لم تعد محصورة في الجانب التجاري فحسب فهناك استثمارات كبيرة للصين في جبل علي في دبي وكذلك في الدقم في سلطنة عُمان. كما أن صناديق الاستثمار السيادية تضخ مليارات في شركات التقنية الغربية.
آدم هنية المحاضر بجامعة إيسكس البريطانية والأكاديمي في مجالات التنمية، أصدر عدة كتب تتناول منطقة الخليج والدور الذي تلعبه في الاقتصاد العالمي. وكتابه "مال وأسواق وملكيّات (Money, Markets, & Monarchies)" يتناول ظهور الرأسمالية الخليجية وخاصة في ضوء تعاظم دور التمويل في الرأسمالية العالمية. خاصة وأن رأس المال أو التمويل حاليًا يتمتع بقدرة هائلة على الانتقال عبر الحدود بسهولة؛ حيث تقوم أسواق المال بتدوير رأس المال، وذلك من خلال ربط مختلف القطاعات الاقتصادية المختلفة، كما إنها تربط بين القطاع الخاص والعام.
لقد أدى انتقال مراكز التمويل من بيروت إلى عواصم دول الخليج، إلى تموضع دول الخليج كمركز محوري في عملية التمويل. وكان لرأس المال دور مفصلي في توسع الدور الخليجي في منطقة الشرق الأوسط؛ فمعظم التمويل الذي تحصل عليه المشاريع المقامة في كل من مصر والجزائر والأردن والعراق وتونس وليبيا وسوريا واليمن مصدره دول الخليج. وفي لبنان أكثر من 50 بالمائة من أصول المصارف مملوكة لمؤسسات خليجية، وفي فلسطين تمتلك دول الخليج حوالي 63 بالمائة، وفي الأردن تبلغ حصة هذه الدول حوالي 86 بالمائة.
هناك العديد من الشركات في الشرق الأوسط يتم تداول أسهمها في بورصات دول الخليج وذلك حسب هنيه "يزيد من تعميق الارتباط والتشابك في هيكلة التملك على مستوى المنطقة". وتنشط الاستثمارات الخليجية في مجالات عدة في الوطن العربي كالمقاولات، والمراكز التجارية (المولات)، وشركات الاتصالات، وإدارة الموانئ، هذا إضافة إلى شراء الأراضي الزراعية؛ حيث يعد الأمن الغذائي في سلم أولويات بعض دول الخليج بعد أزمة 2007.
وتحرير القطاع المالي في الوطن العربي، قد فتح المجال لهيمنة رأس المال الخليجي، وهذا لم يؤدِّ إلى عولمة رأس المال في الخليج فحسب، وإنما أدى إلى تقريب وتنسيق التراكم المحلي في الوطن العربي مع إيقاعات ووتائر التراكم في الخليج.
لقد أدت هيمنة رأس المال الخليجي، إلى عواقب وخيمة على المجتمعات العربية حسب رأي د. هنيه، وذلك أنَّه على امتداد الوطن العربي ترزح هذه المجتمعات تحت وطأة الديون العامة والخاصة؛ نتيجة لهيمنة التمويل وتوسع أسواق الائتمان، وتذبذب أسعار السلع، وانعدام الأمن الغذائي. فحسب تقرير الأمم المتحدة للبيئة (Habitat) فإنَّ 40% من دخل التونسيين النشطين اقتصاديًا يذهب نحو تسديد قروض الإسكان، وفي لبنان 38 بالمائة من دخل الفرد يذهب لخدمة الدين (قبل الأزمة الحالية)، وفي مصر خدمة الدين العام تشكل حوالي 27 بالمائة من الإنفاق العام.
وإضافة إلى الدور الذي يؤديه رأس المال الخليجي في التوسع والهيمنة في المنطقة، فهو المغذى الأساسي للدين الأمريكي وللأسواق المالية الأمريكية، وذلك عن طريق تمويل العجز في الحساب الجاري عن طريق شراء أذونات وسندات الخزانة الأمريكية. كما إنه يسهم بدور محوري في مساعدة النظام المصرفي في المملكة المتحدة ليؤدي دوره كرابط مهم وأساسي في التمويل العالمي. وفي وقت الأزمة المالية العالمية في عام 2008، ظل الخليج مصدرًا للطلب على الخدمات المالية، كما إنه أدى دورًا حيويًا في إنقاذ عدد من المؤسسات العالمية عن طريق ضخ السيولة والاستثمار المباشر والمساعدة في الاندماج، كما كان الحال مع بنك كريدت سويس، وبنك باركليز، وشركة فولكس واجن، وشركة بريتش إيرويز.
ويضيف هنيه أن رأس المال الخليجي هو حصان طراودة للسياسات النيوليبرالية في المنطقة؛ حيث غالبًا لا يموِّل سوى تلك الدول التي لديها برامج للهيكلة الاقتصادية مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
"مال وأسواق وملكيّات" كتابٌ جدير بالقراءة وخاصة لأولئك المهتمين بالتطورات الحاصلة باقتصاديات دول منطقة الخليج؛ حيث يغطي الكتاب بعمق وبالتفصيل معلومات عن أهم الشركات العملاقة في المنطقة والعلاقات القائمة بين دول الخليج وبقية الدول العربية، ويعطي القارئ رؤية بانورامية حول الاستثمار والاقتصاد السياسي. غير أن الكتاب يتغاضى عن الاختلافات بين دول الخليج، كما إن أطروحته حول التمويل تبدو غير واضحة، إلا أنه يقدم مساهمة قيمة في دراسة المنطقة وتحولاتها.