آبارٌ مَلعونة‎‎

 

أنيسة الهوتية

 

"سركَ في بئر" قصة قصيرة جدًا أو نكتة لشخص كان يُعاني من مشكلة مُعينة في أمر ما وكادت تنفجر مرارته من الكبت، إلى أن وجد شخصاً مقرباً وقال له: هيا تكلم معي وخفف على قلبك العبء فأنا كلي آذان صاغية واطمئن سرك في بئر. وبعد أيام، ندم على تنفيسه وترويحه عن نفسه بالحديث لأنه اكتشف أنَّ البئر ممتلئ والضجيج به يقتل السكون.

الغريبة أنني حين سمعتها لم أضحك عليها؛ بل لوهلة تمنيت لو أنَّ كل هؤلاء موجودون في البئر التي سقط فيها الصغير ريان، على الأقل كان ليستأنس بهم، بدل تلك الأيام الموحشة في الظلمة، والرطوبة، وقلة الأكسجين، والجوع، والعطش، والخوف، والوحشة، والآلام من أثر تلك السقطة القوية.. وبينما افكر في كل ذلك شعرت بصداع شقَّ رأسي نصفين حتى اجهشت بالبكاء حزنًا عليه، كدتُ ألوم كل شيء حتى نفسي وحتى تقنية الحفر تلك التي أشاد بها خبراء أمريكان بأنها الأفضل إلا أنَّ إشادتهم لا تمنعني من الشعور بأنَّ هناك خطأٌ ما! وكان لا بُد أن تكون هناك الخطة (ب)!!

خمسة أيام والاستمرار بخطة واحدة دون مبادرات أخرى كان امرًا خاطئًا. وبينما كاد رأسي وقلبي ينفجران من التفكير والحزن المترابطين ببعض، فجأة شعرت بشعور لطيف وكأن الهواء احتضنني، وهبَّت نسمة ربيعية في صيفي الحارق، وبردت جوفي كما يبرد الماء جوف العطشان ويبلل ريق الصائم... فتوقفت عن كل تلك الأفكار ووجدتني فجأة أستغفر ربي وكأنَّ هناك من يلقنني الاستغفار،  وتذكرت أنَّ رحمة الله وسعت كل شيء. كل تلك الأفكار التي راودتني عن مُعاناة الطفل ريّان في البئر هي أفكار دنيوية بحتة، والحق هو أن الله ليس بظلَّامٍ للعبيد، فبالتأكيد كانت ملائكة الله معه، لم يكن وحيدًا ولم يكن ذلك المكان موحشًا! إنما كان في مكان لا نبصره نحن، هيأه الله له وآنس وحشته.. فرحمة الله تعالى على عباده أوسع وأكبر من رحمة الأم على فلذة كبدها.. ولربما هو درس لقنه ريان للعلم وقد تعلم الأغلب من هذا الدرس جانبًا يخصه، ومنها أن الحكومات بدأت بردم أغلب الآبار وخاصة الإرتوازية، وسينتبه أغلب أولياء الأمور لأبنائهم الصغار ويضعونهم نصب أعينهم، وأيضا ننتظر الاختراعات وخطط الإنقاذ المستقبلية المتطورة لأن ما حصل دلَّ على أن الحالية فاشلة، ووجود الخطة (ب) أمر ضروري جدًا كما حصل في رومانيا عام 2013 عند إنقاذ طفل بعمر عامين في بئر عميقة بذات العوامل الجغرافية.

وردم الآبار أمر مهم جدًا كذلك، باستثناء القانونية منها والمنتعشة بالماء بشرط أن تعمل بتقنيات حماية متكاملة، فلطالما كانت الآبار مكانًا لدفن الجرائم الإنسانية على مر العصور، فكم وكم من الناس من غُدر بهم وتمَّ رميهم في الآبار التي وللأسف حفظت أسرارها ولربما إلى يومنا هذا يبقى الإنسان المقتول غائبًا ومجهولاً.. فقصص الخيانات الزوجية وخلافات الورثة لطالما خلفت وراءها ضحية في بئر مهجور وتلك هي الآبار الملعونة. ولا ننسى نبي الله يوسف عليه السلام حين رماه إخوته في  البئر والتي أصنفها  من الآبار المُكرمة، ومثلها البئر التي دفن فيها أصحاب الرس نبيهم.