متغيرات العصر.. ونظام التعليم

 

د. صالح الفهدي

هل على الأجيال الحالية والقادمة أن تضيِّعَ أربعةَ أعوامٍ من أعمارها في الجامعات بعد انتهائها من التعليم المدرسي لتدرس مواد لا تفيدها بعد انتهاء الأربعة أعوام؟! هل على الجهات الحكومية أن تبتعث موظفيها لما تسمِّيه بـ"إكمال" الدراسة الجامعية العُليا؟!

أقولُ – من وجهة نظرٍ شخصية- لا؛ لأن هناك معطيات تؤكِّد أن هذه السنوات الأربعة هي مضيعة للوقت، ولا تجدُ الجامعات من سبيل إلاَّ إلى حشوها بما لا ينفع المتعلم في واقعه.

علينا أن ننتبه إلى أننا في عالم المعرفة، وأنَّ العالم يتغيَّرُ سريعاً بسبب تقدُّم التكنولوجيا بصورة متسارعة، تتغيَّرُ معه الوظائف، وتصبحُ معه التخصُّصات أكثرَ دقَّة، ما يعني أن قضاء سنوات في دراسة مواضيع مختلفة غير تخصصية لا تجدي صاحبها نفعاً، ولا تفيدُ أيَّة مؤسسة.

يقول Vishen Lakhiani مؤسس Mindvalley: جلستُ في عام 2016 مع أحد علماء المستقبل في أمريكا وهو Peter H. Diamandis مؤسس شركة خاص للسفر إلى الفضاء، ومؤلف مساعد لكتاب " "المستقبل أسرع مما تعتقد: كيف تعمل التقنيات المتقاربة على تحويل الأعمال والصناعات وحياتنا"، فقال لي: لقد شهد العالم تغييراً كبيراً في الفترة من عام 2000 إلى 2016 ، بأعظم مما شهد خلال 1900 إلى  2000 أي أننا شهدنا تغييراً في 16 عامًا، يضاهي ما شهدناه خلال 100 عام..! وتابع قائلاً: وفي الفترة من عام 2016 إلى عام 2022، سنشهد قدرًا مساويًا من التغيير، أي خلال 8 سنوات!، ثم ألقى قنبلة أخرى بقوله: وبعد ذلك سنرى قدرًا آخر مماثلًا من التغيير بين 2022 و 2026 ما يعادل 100 عام من التغيير في 4 سنوات فقط؛ أي أن كل عامٍ يُضاهي 25 عاماً فتقدم التكنولوجيا يسيرُ بوتيرةٍ سريعةٍ أكبر بكثير مما يمكن أن يتخيله أي إنسان".

وأخذاً في الاعتبار هذه السرعة التي تقودها التكنولوجيا فإنَّ قضاء سنواتٍ في الجامعات في دراساتٍ لا تعمق المعرفة الدقيقة لتخصِّصٍ ما هو بالفعلِ إضاعة للوقت، لأننا قد خُضنا التجربة وخلصنا إلى أنَّ الجامعات في عمومها لا تخرِّجُ متعلِّماً بمعرفةٍ وخبرةٍ دقيقةٍ في مجالٍ معيَّن إلاَّ لبعض التخصصات التي ترافقها تدريبات عملية متخصصة، على سبيل المثال دراسة الطب، خاصّة الدراسة التخصصية المعمَّقة في مجالٍ معيَّن وذلك يتم بعد عدد من سنوات الدراسة الشاملة للطب.

قال لي أحد الدارسين في جامعة مانشستر نقلاً عن مشرفه، أن هذا الأخير قال له: إن دراستك في المالية تختلف عن ممارسة الواقع، فالمالية تخصص يمكنك ممارسته عملياً على خلاف دراسة علم الرياضيات. هذا الأمر يعني أن الوظيفة ليست معقودة بالشهادة وهذا ما يقوله إيلون ماسك رئيس شركة "تيسلا": "لا حاجة للشهادة الجامعية، قد يكون الحصول على شهادة أمر جيد لكن ليس هذا منتهى الأمر فأشخاص مثل بيل جيتس، لاري أليسون، وستيف جوبز لم يحصلوا على الشهادة، فالأمر متعلق بالقدرات الاستثنائية، وسجل الإنجازات الإاستثنائية".

ومن هُنا.. فإنني أعتقد أن الجهات الحكومية تضيِّعُ سنواتٍ، وتهدرُ أموالاً في ابتعاث موظفيها لسنواتٍ في دراساتٍ عامَّة في الإدارةِ، أو التسويق، أو المبيعات، أو المالية أو التخطيط أو غيرها إن كانت بالفعل قد وضعت أهدافاً لتطوير قدراتهم ومهاراتهم، لأنها لا تنتفعُ عملياً من هذه البعثات، ولا تستفيد من عائدها التعليمي لأن الإبتعاث يفتقدُ إلى دقة الأهداف التي ابتعث من أجلها الموظف!! فإن كانت الجهة قد قصدت زيادة تعميق خبرة الموظف في مجال العلاقات أو التسويق أو العقود أو المبيعات أو الموارد البشرية، فالصحيح والأجدر نفعاً أن تبتعثه في دورة عملية ونظرية مكثَّفة لثلاثة، أو لستة أشهر، تضعُ له أهدافاً فيه، ثم تطلبُ من مؤسسةٍ تدريبيةٍ تغطيتها لهذا الموظف، حينها سيعود الموظف وقد تسلَّح بالمعرفة والخبرة اللازمتين لتطوير آلية العمل في تخصُّصه، وهُنا تكون الجهة الباعثة قد وفَّرت أموالها، وأوقاتها، واستفادة من خبرة تلامس واقع العمل، وهذا في اعتقادي ما يجب على الجهات الحكومية خاصَّة أن تفعله؛ تحديد أهداف التعلُّم، والعائد المتوقع أولاً ثم البحث عن المؤسسة التعليمية/ التدريبية التي تقدِّم مثل هذه الدورات المفصَّلة لتحقيق هذه الأهداف.

العالم يتغيَّر سريعاً، وأعتقدُ أن نظم التعليم التقليدية (12 عاماً للمدرسة)، و(4 أعوام للجامعات) لا بُد وأن تتغيَّر، فهناك من البشر من لا يحبذون الجلوس 12 عاماً على مقاعد الدراسة، لأن لهم ميولاً عمليةً ومهنيةً تدفعهم إما إلى الخروج من المدرسة وتغيير المسار، أو إكمال الدراسة دون أيَّة دافعية وشغف..! والحال نفسه في الجامعة فقضاء أربعة أعوام في دراسات غير تخصصية تضيِّعُ على المتعلم فرصاً في الخارج لو كان قد انخرط في دورات تخصصية مكثَّفة لحصل عليها على الفور.

يقول أحد الشباب الذين أنهوا دراستهم في "الذكاء الإصطناعي" في جامعة مانشستر: "تصلني الكثير من عروض العمل، ولكن الشركات تفضِّل الخبرة العملية أكثر من الشهادة، لذا فإنني أعمل على مشروع عملي في الذكاء الإصطناعي ليكون عاملاً مسانداً لي للعمل".

الشركات اليوم لا تسأل المتقدِّم عن الشهادة أو المستوى الذي أحرزه المتقدم بقدر ما تنظر إلى خبرته العملية التي اكتسبها، وقدراته ومهاراته الشخصية مما يعني أن العامل الأساسي للحصول على الوظيفة ليس الشهادة في الأساس– وإن كانت إحدى المتطلبات– وإنما ما حصيلة استثمار المترشِّح للوظيفة في نفسه لاكتساب المهارات والقدرات.

هذه المتغيِّرات تدفعُ بصورة جبرية نحو إعادة تصميم مسارات اكتساب المعرفة، والخبرة، والقدرة والمهارة، وكلُّ تأخيرٍ أو تردد يعني خسارة أعمار الشعوب، وبطء التنميات، وإهدار الأموال من دون طائل.