وفاة الطفل ريان.. انفطار قلب الإنسانية في ليلة ظلماء

الرؤية- ريم الحامدية

في ليلةٍ حالكةِ الظلام تجرع مراراتها الطفل ريّان المغربي ذو الخمسة أعوام، وحيدًا في غيابات الجُب.. لم يلقه إخوته كما فعل إخوة يوسف، لكن القدر ألقاه كي يسقط بلا إرادة وبكل استسلام في أعماق مظلمة دون أنيس أو نقطة ضوء تنير له هذا البئر، أو قطعة صوف تحميه من زمهرير شتاء قارص.

مر يومٌ.. يومان.. وأمُّ ريان ووالده يبحثان عنه في كل مكان، يفتشان كل بقعة مروا عليها ويسألان كل أنسيّ عن ابنهم المفقود؛ ليأتي صوت خافت من باطن الأرض يخرج من حفرة قيل إنها بئر، فيقتربان من مصدر الصوت، فيسمعان صوتٍ يملأه الرعب صارخًا: "أخرجوني أخرجوني".. فينفطر قلب الأم وتتقطع أوصالها، ويتجمد الأب من روع المشهد.. يحاولان الاستماع إلى أنينه ويكافحان لمد أيديهم بلا فائدة!

سرعان ما ينتشر الخبر، فيهرع أهالي قرية "شفشاون" شمال المغرب ويجتمع العالم بأسره متآزرين كالبنيان المرصوص في مشهدٍ أقشعر له الحضور؛ بل الإنسانية في كل مكان.

تتدافع سيارات الدفاع المدني لتلحقها سيارات الإسعاف والمعدات، يعجز العقل البشري عن محاولة طرح الحلول، وفي تلك الأثناء تتسابق وسائل الاعلام لمتابعة الحدث الذي هزّ العالم بأسره واهتز له قلب كل أم لتردد "سلم ريان لأمه يارب واحفظ الأبناء أينما كانوا"، وما بين الأمل واليأس في إخراج الطفل ريان، تتصاعد الدعوات وترفع الصوات كي ينجو الطفل من ظلمات الليل البهيم.

تمر الأيام وحال أم ريان يُرثى له والدموع تكاد تغرقها، وقلب الأب ينفطر حرقةً وألمًا؛ لنشاهد الحفّار وكأنه أحن من يد الأم في محاولته للوصول إلى الطفل لإنقاذه من ضيق البئر؛ ليرى بصيص النور مرة أخرى. وبين هذا وذاك، أقران ريان في جميع بقاع الأرض تصعد دعواتهم لرب السماء كي ينجو ريان ويعود للعبِ مع إخوته وأصدقائه ويملأ بيت أبيه سعادة وفرحة.

يحل اليوم الخامس والحفار يواصل التنقيب ورفع أطنان من الأتربة والصخور، بينما يترقب عشرات الملايين حول العالم، شاشات التلفزة وهي تنقل مباشرة الحدث.. يشاهد الجميع والعيون جاحظة والقلوب حزينة.. ترقب مستمر لبيان تلو الآخر، وخبر وراء خبر، الحفر يقترب، على بعد 4 أمتار.. على بعد 3 أمتار.. على بعد مترين.. انفرجت الهوة.. ولكن!

تفاجأ الجميع بصخرة أعاقت الوصول، لتستمر عملية الحفر بالأيدي الحنونة الهادئة الدافئة لتصل إلى نهاية النفق، فيضج العالم بأسره بالتكبير والتهليل، كأنه يوم الحج الأعظم؛ فتعم الفرحة أركان الكون.

ما زال الترقب سيد الموقف، لعل صورة الطفل تظهر على الهواء وتطمئن القلوب الحائرة، لعل دموع الفرح تنزل على مُحيّا الأم بدلًا من دموع الهم والحزن، الذي أهلكها منذ غياب فلذة كبدها.

ظهر النور ويا ليت النور استمر! إذ دخلت الفرق الطبية للاطمئنان على صحة صغير العالم، بينما يتأهب الاب الحنون والأم الرؤوم أمام النفق مستعدان لحمل ريان والرجوع به إلى المنزل.

وبين لحظات الترقب، حُمل ريان بسرعة فائقة إلى سيارة الإسعاف، التي هرولت بعيدًا عن الألوف المحتشدة.. وبينما الصمت يُطبق على الجميع، وبينما ضربت الحيرة كافة وسائل الإعلام، بين من يتحدث عن وفاة الطفل، وبين من ينفي، وفي المنتصف، تضاعفت الدعوات وكثرت الصلوات مجددًا بأن يكتب الله لهذا الطفل عمرًا جديدًا.. لكن قدر الله قد نفذ!

يأتي بيان نعي كئيب، عبارات ممزوجة بالإيمان والقدر، والحزن والفقد، بيان أطلق رصاصة الرحمة على الجموع التي ظلت تترقب ليل نهار على مدة 5 أيام مشهد الفرحة المنتظرة، فسقطت كلمات بيان النعي على مسامع الجميع وكأنها قنابل نووية دمرت العالم..

خرج ريان من البئر، ومات شهيدًا للإهمال.. لكنه لم يخرج من قلوبنا.. رحل الطفل الذي حرك مشاعر العالم، لكنه حلق بأجنحة الملائكة إلى السماء ليقضي حياته الآخرة بين الجنان.

رحل ريان وأيقظ الضمير الإنساني.. رحل وترك أمًا ثكلى وأبًا قلبه منفطر، والعالم في حزن عميق.. رحل ليجبرنا على تذكره ونرثيه ما حيينا مرددين الأبيات التي قرضها الشاعر هلال الشيادي:

سقطتَّ ليرتوي منك الترابُ // كأنك في غَيابته سحابُ

وقد بدت الحياةُ إليك ظمأى // فأنت الماءُ والدنيا سرابُ

تفيض براءةً وتسيل طهرا // لتخضرّ المشاعرُ والهضابُ

هبطتَّ إلى السماء بروح طير // ومنك لأمك الولهى انسكابُ

لتحْضُرَ للجِنان بكل شوقٍ // وأبكانا بحضرتك الغيابُ

تعليق عبر الفيس بوك