سوسيولوجيا المدن المُعوْلَمة

 

علي الرئيسي

 

ساسكيا ساسين "Saskia Sassen" عالمة الاجتماع الهولندية الأمريكية، والمحاضرة بجامعة كولومبيا الأمريكية، تُحدد في كتابها "سوسيولوجيا العولمة A Sociology of Globalization"، 4 خصائص للمدن المُعوْلَمة، وهي: 1) أنها مراكز ذات كثافة عالية ومُتقدمة في هرم الاقتصاد العالمي. 2) مراكز مهمة للتمويل ولمؤسسات تقديم الخدمات للمؤسسات العالمية، وبالذات لتقديم الخدمات المهنية، والصيرفة، والتأمين، والمحاسبة، والخدمات القانونية والاستشارية وغيرها من خدمات. 3) مراكز للإنتاج والابتكار للمؤسسات التي تقدم خدمات للمنتجين. 4) سوق للمنتجات والابتكارات المصنعة في هذه المدن.

المدن المُعوْلَمة لم تعد مرتبطة بالسوق المحلي للبلد، ولكن ارتباطها بالحواضر والمدن المعولمة الأخرى، لذلك لم يعد صغر السوق المحلي واردًا أو عائقًا لها. وهناك انفصال بين نمو الاقتصاد الوطني وبين النمو الذي تشهده المدن المعولمة. وتضرب لنا ساسين مثالًا لثلاث مدن هي: لندن، وطوكيو، ونيويورك، وتوضح كيف تحولت هذه المدن الثلاث من مراكز صناعية في السابق إلى مدن مهمتها تقديم خدمات للاقتصاد العالمي. لذلك أصبحت هذه المدن لا تتنافس وإنما أصبحت مكملة لبعضها البعض في تقديم الخدمات المصاحبة لعمليات الإنتاج والابتكار على المستوى العالمي.

الكاتبة.jpg
غلاف الكتاب.jpg
 

تعيدنا ساسين إلى بداية العلاقة التي تربط هذه المدن الثلاث؛ حيث كانت طوكيو تصدر رأس المال، ولندن تُعيد توزيعه، ونيويورك تستثمره، أو أن هذه المدن الثلاث مركز الاستثمار، والابتكار، وتعظيم الأرباح، على الترتيب. وفي كتاب آخر لها بعنوان "مدن الاقتصاد العالمي"، وفي أعمال أخرى صدرت بعد ذلك، تنقل المؤلفة اهتمامها من عدة مدن مهمة تلعب دورًا محوريًا في عملية العولمة إلى مجموعة من المدن والحواضر التي تشكل جغرافيا للعولمة، وهذه الشبكة من المدن العابرة للوطنية "Transnational" مرتبطة ببعضها البعض بأنظمة متشابكة من النظم المالية، ومركز للتجارة والخدمات، وهذه المدن تضم نيويورك ولندن وطوكيو وفرانكفورت وأمستردام ومومباي وجاكرتا وهونج كون ومكسيكو سيتي وسابولو وسانتياغو وجوهانسبرج، وذلك ضمن مدن أخرى ربما تصل إلى حوالي 40 مدينة حول العالم. لذلك ترى ساسين أن هيكل الاقتصاد العالمي في الواقع عبارة عن شبكة مترابطة تتمركز فيها مراكز أهم الشركات والمؤسسات العالمية، هذا إضافة إلى الشركات المتخصصة في تقديم الخدمات المهنية، والمؤسسات الخاصة بإدارة الأصول.

أطروحة ساسين تعتمد بشكل كبير علي الاقتصاد السياسي؛ حيث لعب توسع  الخدمات المالية على المستوى العالمي دورًا محوريًا في تطور الاقتصاد العالمي. والبحث في العولمة يشير إلى الدور المُهيمن الذى لعبه التمويل الرأسمالي وخاصة ذلك الجزء من رأس المال المتنقل أو العابر للحدود. فمنذ 1970 بلغت رؤوس الأموال العابرة للحدود مستويات قياسية، فقد ارتفعت بين 1980 إلى 1990 من 324 مليار دولار إلى 7.5 تريليون دولار!

وببداية القرن الحادي والعشرين، فإن بضعة تريليونات يتم المضاربة بها في العملات وفي عمليات أخرى يوميًا.

طبعًا الوجه الآخر للعولمة يتمثل في العمالة العابرة للحدود، وأطروحة ساسين في جوهرها تحاول سبر العلاقة الجدلية بين انتقال رؤوس الأموال والهجرة. ورغم أن انتقال العمالة أقل انسيابية من انتقال رؤوس الأموال نظرًا لقوانين الهجرة، إلا أنَّ أطروحة ساسين حول العمالة هي أطروحة متكاملة ولا مقال مثل هذا يوفيها حقها. لكن من المثير أن معظم الهجرات التي حدثت في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي إلى أمريكا وأوروبا كانت من البلدان التي كانت الوجهة المفضلة للاستثمار الأجنبي المباشر، على سبيل المثال كوريا الجنوبية، وتايوان، وكمبوديا، وفيتنام، والمكسيك، ودول أمريكا اللاتينية. لذلك تجادل المؤلفة أن لا علاقة بين الهجرة والكثافة السكانية أو التخلف الاقتصادي، كما كانت تزعم النظريات السابقة، وأن من أسباب الهجرة الاستثمار المباشر، وتفكيكه للبنى الاقتصادية والاجتماعية في الدول التي تقصدها هذه الاستثمارات.

ورغم أنَّ ساسين تبتعد في تحليلها عن الأخذ بالمنهج الطبقي؛ حيث إنها لا تتطرق إلى الطبيعة الطبقية للنخب المتحكمة بالعولمة، إلا أنها تشير إلى أن هذه المدن المعولمة يقطنها 20% من الموظفين المهنيين، ذوي الدخول العالية، بينما يحيط بهم ملايين من العمال ذوي الأجور المنخفضة، والذين يقدمون شتى أنواع الخدمات التي تحتاجها هذه المدن، من خدمات التنظيف، والكتبة، والحراس، والسائقين، والعاملين في المصانع، وفي الصناعات التي هجرها أهل البلد. وتستعين هذه المدن بجيش من العاملين المهاجرين ذوي الأجور المنخفضة، ولا يتمتع معظم هؤلاء بأي ضمانات أو حقوق مدنية. وهذه الظاهرة موجودة في معظم المدن المعولمة.

وترى ساسين أن أحد أبرز أسباب هذه الهجرات في السنوات الأخيرة، هو فقدان المهاجرين، أو المهجَّرين قسرًا من بيئاتهم الحاضنة "Habitat"، وذلك نتيجة للعمليات التي تقوم بها الشركات العابرة للحدود؛ كالتعدين، واستكشاف النفط والغاز، أو المشاريع الزراعية الكبيرة. وتضيف أنَّ الهجرات الأخيرة يجب أن ينظر إليها في سياقها التاريخي، ألا وهو تأمين تزويد سوق العمل بعمالة رخيصة، وهي مسألة مفصلية في تطور الرأسمالية.

باحث في قضايا الاقتصاد والتنمية