لماذ يكره المتطرفون التصوف؟

 

د. رفعت سيد أحمد

يقف اليوم العقلاء والرحماء في عالمنا الإسلامي منزعجين بعد عشر سنوات من الربيع الداعشي الدامي، والذي التحف بعضه زيفًا برداء الدين، مُقدمًا كل قبيح وشاذ من قيم ومن أمور الحياة، ويُصرّ أتباعه أنه وحده هو الإسلام، إنه النموذج الذي ما زالت تقدّمه تلك الجماعات التكفيرية التي تنتشر كالجراد في بلادنا، ورغم هزيمة أغلبها في سوريا والعراق ومصر، إلا أن بقاياها ما زالت حاضرة بفقهها ونمط تديّنها التكفيري الشاذ.

من هنا نحتاج إلى أن نقول للناس كافة، إنَّ هذا ليس دين الإسلام، وإن ثمة أشكال أخرى أكثر جمالاً وعدلاً وروحانية يعرفها ويُقرّها الإسلام المُحمّدي الأصيل، ومنها على سبيل المثال: التصوّف، بكل علومه ومُفرداته ودعوته الوسطية الإسلامية المعتدلة التي تقاوم من حيث لم ترد ذلك الفكر التكفيري الشاذ المُسيء للإسلام القادم من صحراء الفكر المتطرف والتي ما أن تهبّ على مجتمع إلا وحوّلته إلى خرابٍ ودمار. وانظر حولك لتجد الأدلّة واضحة وضوح الشمس، في مُواجهة هذه الهجمة، وهذا الفكر التكفيري، يأتي دور الدعوة الصوفية القائمة على التسامُح والتراحُم وحب الخير والبناء وعمران الأرض والناس؛ بل والجهاد في سبيل الله حق الجهاد.

إن الصوفية إذا ما فُهِمَت فَهْماً صحيحاً تستطيع أن تقدّم علاجًا لآفة التكفير والغلوّ، وتستطيع- إن أُحسِن التعاون معها بعد تنقيتها من شوائب السياسة والتخلّف المعرفي- أن تصير الأداة الأكثر نجاحًا في مواجهة جيوش التتار من التكفيريين والسلفيين الوهّابيين الذين لا يحملون بين أضلعهم إلا كل خراب ودمار للمجتمع.

إن خلاصة ما استقرّت عليه الدراسات المتّصلة بالحركات الصوفية سواء في العالم الإسلامي أو في مصر (التي بها وحدها 65 طريقة صوفية وحوالى 15 مليون عضو أو مُريد وفقًا لأدبيات الصوفية) أن لها أدوارًا مهمة كبرى إن تمّت الاستفادة منها تحقّق الانتصار الفعلي على دُعاة الغلوّ، وفقه الغَلَظة والتكفير، من هذه الأدوار والأهداف في ذات الوقت نذكر وبإيجاز ما يلي:

تربية الفرد المسلم: أساليب التصوّف الإسلامي تقوم على تربية المريدين على التوبة، والمجاهَدة، والزهد، والمحبة، والخشية، والورَع، وقطع الهوى، وكل ما يدخل تحت المقامات، فالمقامات أساليب تربوية؛ تربية تجعل الإنسان إيجابياً، يعيش في حركة بنّاءة.. تربية تؤهّل الإنسان للعطاء، وتنمّى فيه القدرة على مواجهة الصعاب.. تربية تُعدّ الإنسان إعداداً ناضجاً لممارسة الحياة بالطريقة التى يرسمها ويُخطّط أبعادها الإسلام.. تربية تجعل الشخصية الإسلامية شخصية مُتّزِنة، ولا يطغى على موقفها الانفعال، ولا يسيطر عليها التفكير المادي، ولا الانحراف الفكرى المُتأتّي من سيولة العقل.. تربية تبني الإنسان على أساس وحدة فكرية، وسلوكية وعاطفية متماسكة على أساس من التناسق.. تربية تجعل الإنسان يشعر دوماً أنه مسؤول عن الإصلاح وفعل الخير.

إن هذه الأساليب تؤكّد لنا أن التصوّف هو جزء جوهرى من الدين الإسلامى.

وإذا كان هناك من تشابُه بين الصوفية وما يماثلها من البيئات الأخرى، فتفسير هذا طبيعي لا يحتاج إلى افتراض الاستعارة، ذلك أنه ما دامت الحقيقة واحدة فإن كل العقائد السماوية تتّحد في جوهرها، وإن اختلفت في ما تلبسه من صوَر.

ولعلاج التطرّف في المجتمع، فالتصوّف الإسلامى يخاطب وجدان البشر ويهتم بتهذيب سلوكهم، وترقيق مشاعرهم وترقية أرواحهم. ولاشك في أن النزعة الوجدانية قوّة أصيلة، وركيزة هامة في بناء شخصية الإنسان ولا تقبل الشخصية الإنسانية قمع هذه النزعة، وإهدارها باسم العقل، أو باسم غيره من قوى الشخصية.

إن المجتمع المسلم في أمسِّ الحاجة إلى ما يمكن تسميته بـ"النموذج الصوفي"؛ لأن كل شيء من حولنا يهتزّ ويخور، والقِيَم الأخلاقية آخذة فى الاضمحلال، والشباب حينما يفقد القدوة يندفع تحت تأثير الإحباط نحو التسيّب والجريمة أو التشدّد والتعصّب الديني، وهو عين ما جرى في سوريا والعراق ومصر وغيرها من البلاد التي ابتُلِيت بداعش والقاعدة والإخوان ومَن شابههم من جماعات الإرهاب.

ومن ناحية أخرى، فإن الطريق إلى الله تعالى يسع المسلمين جميعاً، وليس قاصرًا على أتباع التصوّف، لأن الإسلام رسالة تكليفية ابتداء من قول: لا إله إلا الله محمّد رسول الله، حثّ على إماطة الأذى عن الطريق، لذلك فلا يمكن أن يقوم الصوفية وحدهم بحل مشاكل الأمّة، وفى نفس الوقت لا يمكن الحل من دونهم.

توحيد كلمة الأمّة: تتميَّز الصوفية بميزة لا توجد في مَن سواهم وهي وحدة الصف، والتي تُعدّ من أكبر عوامل الأمن والاستقرار في المجتمعات، ففي الوقت الذى تتحزَّب فيه الحركات العاملة في الجو الإسلامي وتنقسم على أنفسها، نجد الصوفية مُتّحدين في ما بينهم رغم تعدّد الطرق، وإن كلاً اختار سبيلاً يراه أسهل في الوصول إلى الغاية، أو يراه أليقاً بحاله مع احترامه للجميع، كاختلاف المدرّسين في مدرسة واحدة في تدريس مُقرّر واحد، فلكل طريقته في التعليم، والكتاب واحد، ولذلك اتفق الصوفية على مقولة: "اعرف شيخك، وَحِبّ الكل".

وأتباع الصوفية يطبّقون مفهوم الوحدة الإسلامية، وتوحيد الكلمة خاصة بين أهل السنّة والشيعة إلى حد أنه يطلقون عليهم وصف "شيعة السنّة وسنة الشيعة"، لما يقدّمونه من تأليف للقلوب وللقِيَم على أسُس إسلامية توحيدية،هدفها وحدة الأمّة، كما قرأت وسمعت من شيوخ وقيادات الطرق الصوفية في بلادنا خلال ربع القرن الماضي.

وعندما أطلعت على كتب الصوفية بغرض البحث العلمي وجدتهم يذهبون إلى أنَّ التصوّف كالحياة تمامًا؛ مدرسة مفتوحة على مصراعيها تختصّ في توطين المُنتسبين إليها على الصدق والإخلاص، والاستغراق فى التوحيد الخالص المُعبَّر عنه بلسان الصوفية، والحرص الشديد على هداية الناس، والأخذ بأيديهم إلى رحاب التقوى والعمل الصالح الذي يرضى عنه الله ورسوله.

صحيحح هناك بعض الأخطاء في طرق ووسائل ممارسة بعض أفراد أو فرق التصوف الطاهر من الشعائر الخرافية، لكن جوهر دعوات التصوف وفي عمومها تقوم على النقاء والطهر والفكر الوسطي الروحي الجميل.. فأين هذا من الجماعات الداعشية والمتطرفة التي أضرت بالإسلام بممارساتها الإرهابية الدامية طيلة العشر سنوات الماضية، خاصة في سوريا والعراق وليبيا وسيناء، والتي نجح الجيش والشرطة المصرية في تطهيرها من دنسهم، وما زالوا يطهرون البلاد من بقاياهم.

إنَّ هذه الدعوة الروحية للتصوف- ولأنها دعوة بناء وعزة- كرهها المتطرفون وسيظلون يكرهونها. حفظ الله التصوف الحق وحفظ بلادنا.