قصة الخبز

 

 

خالد بن سعد الشنفري

 

يبلغ عمر أقدم رغيف خبز مُكتشف 14 ألفًا و400 سنة، والذي اكتشف في العام 2018 في الصحراء السوداء بالأردن، بواسطة فريق أبحاث من جامعة كوبنهاجن؛ حيث عُثر على بقايا فتات قطع خبز، وتقول أيانا آرنز الباحثة فى علم النباتات في الفريق الذي أعد البحث إنه أصبح من المؤكد اليوم أن الإنسان اكتشف الخبز قبل ظهور الزراعة، وكان الاكتشاف الأسبق لذلك فى المقابر المصرية القديمة وقدر بـ3500 سنة، ثم اكتشاف بقايا أرغفة فى تركيا عمرها 9000 سنة، ويُقدَّر أن البشرية استغرقت 10 ملايين سنة؛ لاكتشاف الرغيف، وذلك من خليط من طحين بذور الأعشاب البرية وكان يتخذ كشطيرة مع اللحوم.

وتتعدد اليوم وتتنوع أنواع الرغيف فى العالم ويكاد لا يخلو شعب أو بلد من نوع واحد من الخبز، وأحيانا أكثر من نوع لدى بعض الشعوب. وفى محافظة ظفار بسلطنتنا الحبيبة توجد 4 أنواع من الخبز؛ 3 منها ظفارية المنشأ؛ حيث قلما تجد لها شبيها فى أي بلد آخر وهي: خبز القالب الظفاري الرقيق، ويُطهى في التنور وله قصص كثيرة؛ منها أن الرحالة العربي الشهير ابن بطوطة الذي زار ظفار قبل أكثر من 7 قرون من الزمن قد أسهب في وصفه لشدة إعجابه به ولتفرده؛ حيث قال إنَّ دقيقه يُعجن بالسمن البلدي وهو لذيذ زكي الرائحة، قد يضاف إليه البيض أحيانا، وذكر أنه رغيف معمر أي لا يفسد لمدد طويلة (أشبه بالبسكويت حاليًا)، وقد أخذ زاده منه في رحلة عودته إلى كيرلا بالهند عن طريق البحر والتي كانت تستغرق مدة أكثر من شهر.

ولهذا الغرض نفسه كان رجال الكتيبة الخاصة التي كان في بداية السبعينات يقتصر الالتحاق بها على أبناء محافظة ظفار يتزودون به في مهماتهم العسكرية الطويلة في النجد والصحارى، وهو يؤكل مع أي طبخة ومع لحم المعجين الظفاري الشهي والمعمر بدوره وهذه التوليفة الأخيرة (كعك ومعجين) تعتبر أنسب زاد للمسافرين عبر المناطق النائية وللرحالة لأيام طويلة فكلاهما يعتبران مما قلَّ وزنه وزادت قيمته الغذائية، إضافة إلى أنه يؤكل حاف أو مع الشاي الملبن وله مذاق طيب لذيذ جدًا مع الحلوى العمانية ويقدم معها فى كل بيت فى الأعياد والمناسبات.

وإضافة إلى خبز القالب الرقيق هذا يوجد خبز آخر سميك (الخبز الثخين) ويطهى أيضا فى التنور ويختلف عن الخبز الرقيق بثخنه وليونته ويصلح للأكل حاف أيضاً ويعمل كثريد مع الحليب (كعكة في لبن) وغموس مع المرق ويعتبر ثريد اللبن وجبة سحور رئيسة في رمضان ولكنه لا يعمر كثيرا كالخبز الرقيق. وفي جبال ونجد ظفار يوجد نوع ثالث من الأرغفة يسمى (مطبلات)؛ وهو شبيه بالخبز الثخين ويطهى على جمر الحصى وليس التنور ولا يراعى فيه عادة الشكل والتزيين بالخطوط والنقاط كخبز ثخين المدن لطبيعة الترحال الدائم مع المواشي للرعي هناك.

ويوجد أيضًا نوعان من المخبوزات من عجينة الخبز هما "القراص" التي ترقق وتسطح عجينتها وتجفف تحت الشمس لعدة ساعات قبل أن يعمل منه طبخة القراص بمرق حليب مبشور جوز الهند ومخبوز "العطرية" التي تشكل عجينتها على شكل خيوط كالمعكرونة ويجفف ويطبخ أيضا مع مرق النارجيل، دخل فى مرحلة متأخرة نوع مطور من البراتا الهندية يسمى خبز التاوا.

إن هذا التنوع في صناعة أرغفة الخبز يحسب بحق لتنوع الذائقة لدى أي شعب، سئل الرئيس الفرنسي السابق شارل ديجول مرة عن مدى صعوبة حكمه للفرنسيين فردَّ على السائل بمقولته الشهيرة، لا شك يستصعب حكم شعب يصنع 54 نوعًا من الأجبان!، وفرنسا لم تشتهر فقط بالأجبان؛ بل بأنواع الخبز أيضا التي تجاوز عددها 20 نوعاً أشهرها خبز الباغيت الفرنسي (الصمول) بأشكاله وأحجامه الذي انتقل إلى كل بلد في العالم وخبز الكرواسون وغيرها كما عرفت كأشهر بلد منتج للعطور دون منازع حيث تنتج أشهر الماركات العالمية المعروفة اليوم ومن المفارقات أنَّ محافظة ظفار تشتهر بدورها بالإضافة إلى خبزها المميز بإنتاج البخور الظفاري الشهير وتعدد أنواعه على مستوى عمان والخليج والجزيرة.

وفى بداية السبعينيات من القرن الماضي، كان يتم استجلاب العمالة من إيران ويرجع ذلك على ما يبدو لموقف الشاه حينها مع عمان وإرساله بعض من قواته للمساعدة في حرب ظفار، وقد استعان عمي رحمة الله عليه بعدد منهم كعمال حيث كان لديه شركة مقاولات بناء صغيرة وكنَّا حينها لازلنا نعيش كثيراً من عادات مرحلة ما قبل السبعين في التعامل مع العمال الذين يقومون بالبناء أو أعمال الزراعة وخلافه وكانوا كلهم من أبناء البلد، فكانت العادة إكرامهم بالأكل من بيت صاحب العمل أو المزرعة بوجبتي الإفطار والغداء، كنَّا نسال هؤلاء العمال الإيرانيين ماذا تفضلون للغداء اليوم ويكون طلبهم المعتاد كل يوم هو الخبز الإيراني والبصل الأخضر.

كنت أركب دراجتي الهوائية (السيكل) وأذهب لسوق ماركيت الحافة وأشتري ربطة كبيرة من البصل الأخضر وأضعها فى القفير خلفي على الدراجة، واتجه من هناك مباشرة إلى ميدان صلالة الوسطى؛ حيث يوجد مخبز وحيد بصلالة كلها يعمل الخبز الإيراني وذلك قبل أن يأتى إلينا العالم كله بخبزه وانتشار المخابز التي تنتج خبز التوست الإنجليزي والصمول الفرنسي والبرجر الأمريكي والخبز العربي الذي لا أعرف السبب أننا نطلق عليه إلى اليوم الخبز اللبناني رغم أنه رغيف عربي تشترك في صنعه كل الدول العربية ولا شيء فيه حصريا للبنان اللهم بعض أنواع الأرغفة المختلفة لبعض الدول العربية كخبز الكسرة المغربي والكسرة السودانية وخبز الطابون الأردني وخبز الملواش أو الملوح اليمني، كنت أحضر حمولتي هذه من الخبز والبصل إلى موقع العمل وأكون أول المستمتعين بأكله معهم رغم بساطته، (الخبز والماء يكفي أحيانا).

مخابزنا اليوم تنتج سلة خبز عالمية متنوعة كادت في بداية نهضتنا وطفرة التغيير لدينا أن تحل محل أرغفتنا المحلية إلا أنه في السنوات الأخيرة والحمد لله أخذ خبزنا العماني يعود للمنافسة ويتبوأ مركزه الطبيعي على سفرتنا من جديد فاشتهر خبز القالب الرقيق وأصبح في كل مناسباتنا واستفادت أسر كثيرة من العمل في صناعته ويقتنى أيضا من قبل الزائرين إلى المحافظة كهدايا يحملونها في عودتهم وانتشر خبز شمال عمان (خبز الرخال) لدينا في الجنوب كأفضلية لعمل الثريد بأنواعه ودخل أيضا إلى مقاهي الوجبات الخفيفة كسندويتش أصناف من الفطائر.

أخيرا وليس بآخر، ومع موجة العزوف العالمية وعدم الإقبال حتى على خبز البر أو ما يعرف بالخبز الأسمر بعد اكتشاف أن معظم الدول المصدرة الرئيسية لحبوب البر وعلى رأسها الولايات المتحدة قد عدلت فيه وراثياً بحيث أصبحت حبته تحتوي على نسبة من الجلوتين اللاصق الذي يلتصق بالأمعاء وله نتائج مضرة فقد اتجهت المخابز فى المحافظة إلى الإكثار من إنتاج خبز الدخن المعروف لدينا منذ القدم فى ظفار ويسمى محليا (المسيبلي) الذي كان يزرع بكثرة ومادة غذائية رئيسية لعمل الخبز بنوعيه الثخين والرقيق ووجبة العصيدة التي كانت أساسية ويكفي أن تلقي نظرة في جوجل على فوائد الدخن حتى تجعله خبزك المفضل، هكذا هي الشعوب تجدد نفسها وتتلاءم مع كل عصر.

أمثال:

طالما يوجد الخبز والماء كل شيء لا يهم

ليس كل الأراضي صالحة للزراعة.. ولكن كل الخبز يُؤكل

خبز بلدى أكثر إرضاءً

إذا كان الماء سر الحياة.. فالماء والخبز هما الحياة