ذاك الذي يسمى المنصب

 

صاحب السُّمو السيد/ نمير بن سالم آل سعيد

 

نقول هذا الشخص لديه منصب حكومي ومعناه توليه اختصاصات ومسؤوليات بالتعيين، ومن الواجب أن يكون مخلصًا، جادًا، مُثابرًا في تأدية عمله بمهنية عالية لا يتوانى عن التضحية بوقته وجهده لتحقيق تنمية وتطوير في مجاله.

وهناك ثلل من المسؤولين رقاة، مخلصون في أداء واجبهم يمنحونه حقه من الوقت والجهد، لا يسعون للشهرة ولا يعتبرون المنصب مغنمًا للإثراء أو بؤرة للتسلط. وإنما البعض حين يتسلم منصباً حكومياً معيناً، ينظرون إلى جانب الرفعة المعنوية التي سينالونها والمنفعة المادية التي سيكسبونها، ويطيرون من شدة الفرح عند سماع خبر تعيينهم، يرفرفون بأجنحتهم في العالي وكأنَّ المعالي فتحت لهم أبوابها دون انغلاق، والسعادة غمرتهم بنشوتها دون انقطاع.

المنصب الحكومي واجب وطني ثقيل المسؤولية على من يتقلده، يتطلب فيه الجهد المستمر والعمل الدؤوب لإيفائه حقه وأداء أمانته، مؤجله فرحته لا تتحقق إلا بالإنجازات على أرض الواقع، وليس مدعاة للتباهي والتفاخر والسعي لتحقيق مكاسب شخصية مادية أو معنوية. وهؤلاء البعض من أصحاب المناصب لا يُفكرون بجدية في ذلك الواجب الصعب المقدمين عليه والمسؤولية الكبيرة التي تلقى على عاتقهم، وأول ما يفكرون به مدغدغًا أحاسيسهم هي المكانة الاجتماعية الرفيعة التي سيستمتعون بها، والمزايا المادية الكبيرة التي سينتفعون منها، والسلطة النافذة على الموظفين التي سيمارسونها، والعلاقات الوثيقة مع أمثالهم من المسؤولين التي سيستغلونها، والتي ستزيل عن طريقهم الحواجز فيما ينشدونه، وتبعد عن مسارهم العراقيل فيما يبتغونه في إطار التعاون المشترك.

البعض من أصحاب المناصب قد ينفصلون عن الواقع بأوهام يُكرسها فيهم المنافقون عبدة المناصب أصحاب المصالح المُتسلقين، ويوهمونهم بأنهم الصفوة المصطفاة، والخيرة المختارة، وغيرهم لا يرقون إلى مستواهم ولا يصلون إلى مكانتهم، فتصيبهم لوثة من التَّكبر والغرور، فتثقل مشيتهم إذا مشوا والتفاتتهم إذا التفتوا، وتتضخم نبرات صوتهم إذا تحدثوا. ينظرون إلى موظفيهم من أعلى، لا يقبلون منهم "إلا" حين يريدون سماع "نعم"، أمرهم مُطاع وطلباتهم مجابة، حتى ولو كانوا على خطأ، ولا تستطيع أن ترمي كلمة الحق في وجوههم، موجودون في كل دولة ولا يكاد يخلو منهم وطن، لا يخالطون إلا المسؤولين أمثالهم ويمتنعون عن مقابلة أصحاب الحاجة، ويغلقون الأبواب دونهم.

فلا ينبغي للمسؤول أن يمتنع عن مُقابلة مواطن بحجج واهية؛ بل يلقاه ليستمع إليه بصبر، فالمنصب لخدمة المواطن، والمواطن جاء طالباً الخدمة ممن وجد لخدمته. وإذا لم يوجد حل لدى المسؤول؛ فالكلمة الطيبة هي الحل ليخرج المواطن راضيا عن المؤسسة حافظا كرامته غير مرفوض أو مطرود؛ فالمواطن ما جاء إلا بعد أن استنفذت وسائله وأنعدمت مقاصده.

وإنما هؤلاء البعض أصحاب المناصب ينظرون إلى الآخرين بدونية حين يأتونهم، وينتقون المهم منهم في نظرهم ليقابلونه أما البقية فلا يكترثون بهم ولا يهتمون لشأنهم منحجبين عنهم خلف طاقم من الموظفين. وبعضهم لا يريدون الاحتكاك بالمواطن والتعامل معه مخافة أن يحسب عليهم أي قول أو فعل، ويتمترسون خلف مكاتبهم منعزلين.

وتبقى هذه الفئة خائفة مترقبة قلقة من زوال منصبها في يوم قريب، ليس لديهم إلا هذا المنصب يستمدون منه عزهم وعنفوانهم. وإذا زال المنصب زالوا وأغتمّوا وتقزّموا، وهذا هو الكابوس الأكبر والكارثة الأصعب لديهم، فهم قد عرفوا بالمنصب والمنصب عرف بهم، وليس لديهم كيان حقيقي بدونه. فترى المعزول منهم مظلما عابسا مذهولا من وقع الصدمة التي لا يزول أثرها، وما تلبث إلا أن تتلاشى عنه الهالة الكاذبة التي أحاط بها نفسه ورسمها حوله. وتجده بعد العزل يتفادى الناس ويتجنب المُناسبات العامة، وإذا جاء، جاء متراجعا متضعضعا، ضعيفا.

لذا من يحصل على ذاك الذي يسمى "المنصب" لا يجب أن يحتسبه مركزا لاستقطاب المنافع الشخصية المادية منها والمعنوية وإكثارها والزيادة عليها، وإنما مجرد وظيفة كباقي الوظائف، مؤتمن على تأديتها بأمانة وإخلاص، مراقبا ومحاسبا عليها، وغدا منها سيرحل، فلا يبطر أو يتكبر أو يتغير.

والمنصب لا يجب أن يُغيرنا؛ بل نحن من يجب أن نُغير المنصب لنجعله أكثر خدمة للمواطن وأكثر قربًا منه، كما يجب ألا يصنعنا المنصب، مجدًا وثروة؛ بل نحن من نصنعه، مستقبلًا زاخرًا بالخير العميم على الوطن والمواطن.