أناقةُ الرُّوح

 

سعيدة بنت أحمد البرعمية

 

نميل جميعًا لأناقة مظهرنا، ونطيل النظر في المرآة نتأمل ملامحنا ونتهندم بدقة، فمنّا من هو مصاب بجماله حد المرض، ومنّا من يمقت شكله ويخجل منه، لاهتمامه بالشكل أكثر من الجوهر، والقلّة القليلة مُغرمة بأناقة روحها ودلالها، تسعى للسُّمو بها وتتخير الأوقات المناسبة للإنزواء بها ومداراتها.   

 

أرواح آمنت بعبارة "خير جليس في الزمان كتاب" وأعطت ذاتها مساحة كافية لرؤية ما يكمن داخلها، آمنتُ كغيري بالعبارة ذاتها؛ بالرغم من أنّي أميل لمجالسة جليس آخر يشبه الكتاب، في بعض أيام الشهر القمري، جالستُ بعض الكتب والكثير من النَّاس؛ لكني أكثرتُ مجالستي للقمر، وحواري معه دائما استثنائيا ومميزا عن أيّ حوار، وكثيرا ما أتساءل أهو حوار أم لجوء تأملي أم حصص من الإملاء أدمنتُ حضورها؟

على الأرجح أنه إملاء؛ فالنظر للقمر يأسر القلوب والحواس؛ بل أنَّ جميعها تتحول إلى كتاب قيد الإنشاء، والقمر قلم يكتبها بعناية، بين الإيجاز والإطناب، شعرا ونثرا بألفاظ سهلة وعاطفة قوية، جمعت بين رومانسية شعراء المهجر وواقعية فلوبير وجدلية هيجل وفلسفة الإغريق لا سيما الأنطولوجيا، أو رواية يُمليها على  قلوب العشّاق، أو تراتيل حوار الأذكياء بحس عال واتزان.

وقد تتبادل الأدوار ويأخذ القمر دور الأوراق المبعثرة والقلوب والحواس دورالقلم؛ فتُملي أحزانها عليها، هل شعرت يوما وأنت تجلس على صخرة تحت القمر بشوق عارم يجتاح عالمك، ولهفة للسماء والسّحب والنجوم، حتما أنت تتماهى بكينونتك مع ماحولك مغرما ومنتشيا بالنسائم، واقعا بلا شك تحت تأثير جاذبية واحتواء روح السماء لك؛ فتشعرأنك مرهف الحس نقي القلب تخلو من المثالب كطفل برئ، ولن يخطر في بالك أنك ثقيل على تلك الصخرة التي تجلس عليها أو أنها قد مقتتك وتضايقت من بوحك وثقل همومك، قد تكون بدورها تشكوك للقمر في الوقت ذاته، هل شعرت أن التراب الذي أمامك يَهُمُّ هو الآخر أن يحثو حفنة منه في وجهك جرّاء انكارك له؛ بالرغم من يقينه أنك بعض جزيئاته، هل تشعر وأنت تحت تأثير جاذبية القمرأنك ظالم ومظلوم، بحيث تشكيه جور الناس والأيام، وفي مكان آخر هناك مَنْ يشكو ظلمك وظلماتك، هجرك وغطرستك وغرورك.

بالتأكيد نعم، فنحن مزيج ما بين كهل بعقل طفل، راشد بقلب مراهق ، ساحر ومسحور، عاشق ومعشوق، عابد وزنديق، مجرم وبريء، مُلهم ومُهمل، مُبدع ومُعدم، جاهل ومتعلم، مهما وصلنا من التحصيل؛ فحين يكتمل القمر نخلع أقنعتنا ونحاوره حوار الضحايا الأنقياء؛ فيُملينا حبراعلى الورق؛ منشئا منّا كتاب يتجاهله النقّاد، كون الناقد إنسان؛ فهو يخشى أن يجد قناعه في الفصل الأخير من الكتاب، فقد كان يكثر مجالسة القمر بمحاذاة الشطآن.

إنّ الجلوس تحت ضوء القمر في ليلة قمراء، يختلف تماما عن الوقوف أمام المرآة؛ فالمرآة تجعلنا نرى ماظهر من محاسنا، فنهيم بها إعجابا وغرورا، أو ما ظهر من قبحنا فنظن أننا لا أهمية لنا، بينما القمر يُسلّط ضوءه على ما خفي منّا، ويخضعنا لحالات من التجلّي والتماهي يخرج بها أجمل وأقبح ما نملك، إحساسا وإدراكا واعترافا وتصوفا، هُنا يكمن الفرق بين الجلوس تحت القمر والوقوف أمام المرآة، قد نقف أمام المرآة لساعات طويلة؛ لكننا لن نخرج بنتيجة سوى أننا جميلين أو قبحاء،  بعكس النظر للقمر، فيه الشعور بالكينونة والراحة مهما بلغ قُبحنا أو جُرمنا. قراءة القمر لا تتطلب جهدا ولا نظارات ولا عصفا ذهنيا؛ بل تتطلب التماهي.

لا يزاحم مجالسة الكتاب إلا جليس آخر أقرب منه للذات، يدرك الجميع أن القراءة مفيدة؛ لكن القليل من يقرأ؛ بينما الجميع يجالس القمر أيًا كان جنسه ولونه ودينه وعمره، ومهما كانت أخلاقه ومهما بلغ من اللين والقسوة ومهما حوى قلبه من الحبّ والكراهية.

قالت أمٌ ذات يوم لابنها الفقير دميم الوجه، سيء الأخلاق الذي يكره القراءة : سأبحث لك عن عروس، قال: أريدها كالقمر، إن لم تكن كذلك؛ فلا حاجة لي إليها، عجبا لجاذبية القمر وسيكلوجية الإنسان!