"رحلة عبر الزمن" في مدينة العُلا السعودية

"شتاء طنطورة".. تمازج الماضي مع الحاضر برؤية مستقبلية وتنوع ثقافي بلا حدود

...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...

◄ "مدائن صالح" تروي فصلًا مُهمًا من تاريخ شبه الجزيرة العربية

◄ مغامرات السفاري تستقطب عشاق الطبيعة البكر الذين تهوي أفئدتهم لصحراء العرب

◄ الطقس البارد المعتدل والرمال الذهبية يشكلان لوحة إبداعية فريدة في العُلا

◄ العرض الأوبرالي لأندريا بوتشيللي ذهب بالجمهور إلى أبعد نقطة في عالم الهيام!

◄ مناشط وفعاليات وزيارات أثرية وحفلات فنية موسيقية بين أحضان العُلا

العُلا (السعودية)- مدرين المكتومية

هل فكرت في خوض تجربة سياحية نوعية تمزج بين الترفيه بأحدث الوسائل التقنية، والتمتع بأجواء تراثية تحمل في قلبها عبق الماضي، لكنها في الوقت نفسه تستشرف آفاق المستقبل بكل ثقة وإبداع؟ ماذا لو أنك قمت برحلة سياحية لا تبعد سوى ساعتين من الطيران- على أقصى تقدير- من مطار مسقط الدولي، واستمتعت بهذه التجربة؟ إليك الإجابة: إنها العُلا في المملكة العربية السعودية الشقيقة.

إنها رحلة تروي حكاية يُمكن أن نضيفها إلى كتاب "ألف ليلة وليلة"، ولا مبالغة في ذلك؛ فالأجواء الساحرة، والمناشط والفعاليات التي تُشعرك بأن العالم كله بين يديك، كفيلة بأن تضفي لمسة ساحرة على رحلتك، فبين الرمال الذهبية، والطقس البارد المعتدل، والشمس المشرقة، ومغامرات السفاري، والسهرات الثقافية أمام كبار نجوم الفن، والفخامة الفندقية، كل ذلك عناصر سردية لواحدة من أهم قصص حياتك، إن لم تكن الأهم!

 

 

الرحلة نحو "العُلا" رحلة عبر الزمن، من عبق الحضارة التاريخية، ورائحة الماضي التليد، من بقايا الآثار القديمة، ووجهة حجاج بيت الله الحرام، منذ الأزل، إنها مفتاح التائهين المغتربين، مفتاح للأبواب المغلقة والنوافذ الموصدة ما بين الماضي والحاضر.. إنها المخطوطة العربية التي تجد فيها كل ما تبحث عنه من تلك الرحلة الشاقة التي عبرتها البشرية عبر الطرق الطويلة المجهولة، إنها بقايا تفاصيل تلك القصص والأساطير التي يتحدثون عنها.

شتاء طنطورة

تحتضننا العُلا لنعيش معها فعاليات ومناشط شتاء طنطورة، الشتاء الاستثنائي بالطبع، أن تعيش بدرجات حرارة منخفضة لم تعتدها إلا في الدول الأوروبية لهي فرصة لتسجل خلالها قصة رائعة من التنوع البايلوجي والتضاريسي وأيضا الموسمي في دولنا الخليجية والعربية، وشتاء طنطورة يعد حدثا سنويا في محافظة العُلا يحتفل به سمي طنطورة نسبة للساعة الشمسية التي تقع في الجزء الجنوبي الشرقي للقرية، حيث كان يعتمد عليها أهالي المنطقة في معرفة وقت دخول موسم الزراعة وتغير فصول السنة. يضم المهرجان أنشطة ترفيهية وثقافية ورياضية ويوفر زيارات ميدانية للمواقع الأثرية في المنطقة، إضافة لعروض مسرحية موسيقية ضمها مسرح مرايا بالمدينة.

بداية النهاية

وما أن بدأت الرحلة، ونحن نسير بين الجبال بأشكالها المختلفة والمتنوعة والشوارع المتعرجة ما أن نسمع الكثير من الحكايات والقصص التي يسردها على مسامعنا أحد سكان " العُلا " يخبرنا قصة السور، والجبل، ونوع اللباس وطريقة الحياة، في الحقيقة لم نكن بحاجة لكل ذلك الشرح، فكل مكان كان قادرا على أن يسرد قصته مما يحويه من أيقونات وتفاصيل، كل مكان وله باخلنا بصمة عالقة، ما بين أشجار النخيل وبقايا المنازل القديمة، تجد تفاصيل الحياة البشرية، والحضارة التي كانت ولازال أثرها باقياً.

وما بين شروق الشمس على الجبال الذهبية وغروبها تكمن حقيقة المكان وروعته، كل شيء كان متباينا ومتناغما، وكأنك تشاهد لوحة فنية عتيقة بمتحف اللوفر بباريس، أو أنك مدعو لعمل مسرحي تاريخي يعيدك لذلك الزمن، وتلك اللحظة وأولئك البشر، كل شيء عالق بالذاكرة.

منتجع شادن

ما أجمل أن تستيقظ صباحًا في العُلا، تحتضنك جبالها، وتستضيفك منتجعاتها الجميلة، تستيقظ لتجد نفسك في "منتجع شادن العُلا" المنتجع الذي ما أن تمشي بضع خطوات حتى تجد الترحيب، ورائحة القهوة التي لا يضاهيها مذاق، بتوابلها العربية الرائعة، تمشي قليلاً لتجد نفسك تتنقل بين المقاعد والطاولات، فكل زاوية هي منظر لوحده، وكل موقع تجد العُلا تزداد جمالا في عينيك، كل شيء تود اللحاق به كظلك، كل شيء يتبعك، شتاء بارد والقليل من النار الموقدة لتشعر بالدفء، إنها العُلا الحياة الشتوية بكل تفاصيلها العربية.

الانزلاق الجبلي

ما أن تستكمل الرحلة، وتأخذك العُلا بشوارعها الجميلة، إلا وتقف عند كل فرد من رفقاء الرحلة، كل منهم له مزاجه وتطلعاته في المحطات التي سنقف عندها، لكننا جميعًا اجتمعنا على حب المكان، ورغبتنا الحقيقية بالعودة إليها متى ما سنحت لنا الفرصة، كل شيء يجذبنا، عُلاقتنا أبناء المنطقة بالعُلا، رغبتهم الجادة لاستضافة أي غريب بينهم، طبيتهم الإنسانية تجعلك تشعر بأريحية تامة وأنت تتعامل معهم، يخدمونك بكل ما يملكون من رحابة صدر، إنهم أبناء العُلا بالتأكيد، انطلقنا نحو تجربة الانزلاق الأكثر إثارة، تجربة رائعة نرى خلالها جماليات الجبال الشاهقة، وتشكيلاتها الرائعة، وصخورها الغنية بالمعادن، ونستمتع ببرودة الطقس وأشعة الشمس الدافئة، كلاهما يندمجان لنشعر بالطبيعة الخلابة والتباين التضاريسي.

العُلا الأثرية

ولأن العُلا ليست فقط رحلة عبر الزمن وإنما هي أيضا التمدن بحد ذاته، فعندما تجوب شوارعها وممراتها بمدينة العُلا الأثرية تغريك المقاهي والكافيهات، تجد نفسك لا شعوريا تتذوق أطعمة من مختلف الحضارات، بين المحلي والعالمي، الإيطالي والشامي بالنكهة التراثية الجميلة، كل ممر وزقاق هو بحد ذاته قصة، في كل ممر تجد رائحة القهوة، والتوابل العربية، وما أن تمضي قليلا تغريك الملابس التقليدية بروعة ألوانها وتصاميمها، وتأتيك رائحة البخور والعطور التي لا تضاهيها روائح، ففي العُلا تعيش التفاصيل التي لا تقارن أبدا بالمنتجات العالمية، إنك وسط كل الصناعات الطبيعية المحلية، كل شيء يغريك لتجربته والتأمل فيه والبقاء عندها، ما بين الحب والإعجاب تقف أمام الأشياء وكأنها لوحات بريشة فنان مبدع، عايش الحضارات وصورها بأحسن تصوير، كل شيء في مدينة العُلا الأثرية يغريك لخوض غمار تجربته، ولم يفتنا بالتأكيد روشة البناء الطيني، التي تعلمنا خلالها كيفية بناء المنازل والقرى التراثية، الكيفية التي عمل عليها الأجداد في بناء هذه البلد لتكون محطة أثرية قمة في الجمال.

ابن بطوطة

بعد مواصلة السير، تقدم لك مدينة العُلا الأثرية مسرحية "ابن بطوطة" التي تحكي قصة الرحالين المسافرين الذين عبروها تجاريا وكان أهلها مصدر إلهام الشعراء والفنانين من مختلف العصور. يحكي العمل المسرحي المتكامل قصة الرحالة العربي الشهير ابن بطوطة خلال رحلته عبر العُلا، ويوثق الراوي قصص الأشخاص الذين التقى بهم ابن بطوطة، وكرم ضيافتهم، وحسن استقبالهم.

مدائن صالح

مع الرغبة في الاستماع إلى القصص التاريخية، والتعرف أكثر وأكثر على البشر الذين استوطنوا العُلا، ما عليك سوى التوجه إلى "الحجر" أو ما يطلق عليها "مدائن صالح"؛ حيث ستجد نفسك منبهرًا بالصخور التي تشكلت بفعل عوامل التعرية. وتحتوي مدائن صالح على أكبر مستوطنة جنوبية لمملكة الأنباط بعد البتراء في الأردن، والتي تفصلها عنها مسافة 500 كم؛ حيث تضم آثار مدائن صالح 153 واجهة صخرية منحوتة، كما تضم عددا من الآثار الإسلامية والتي تتمثل في عدد من القلاع وبقايا خط سكة حديد الحجاز والتي تمتد لمسافة 13 كم وكذلك المحطة والقاطرات. في سنة 2008م تم تسجيل الموقع ضمن قائمة مواقع التراث العالمي، ليصبح بذلك أول موقع يتم تسجيله في السعودية.

جبل الفيل

انطلق الوفد الصحفي الزائر لمنطقة العلا، إلى بقعة جميلة رائعة تتوسط الرمال الذهبية المتلألئة تحت أشعة الشمس، التي لا نشعر بها بقدر ما نستشعر برودة الطقس من حولنا في شتاء العُلا الجميل.. إنه "جبل الفيل"، الذي يمنح الشعور بأنك تعيش أجواءً شتوية فريدة، فقد حان الوقت كي ترتدي ثيابك الثقيلة، وتحتسي قهوتك الدافئة، وتتبادل أطراف الحديث مع رفقاء الرحلة، ليخبروك قصص هذا المكان، وتفاصيله المشوقة، فتجد نفسك لا شعوريًا تنتمي إلى المكان؛ كأنك تعرفه منذ زمن، وكأنَّ هذه المحطة قد عبرتها ذات يوم بنفسك.. "دي جا فو" رومانسي رائع!!

ثم تجلس في أحد مقاهيها الرائعة لترتشف فنجان قهوتك، ومع كل رشفة تتمنى لو أن هذا المكان تشاركه مع من تحب.

جبل الفيل عبارة عن صخرة ضخمة يبلغ ارتفاعها عن الأرض 50 متراً وهو مسجل عالميا ضمن عجائب الجيولوجيا، وهو يسكن في قلب الرمال الصحراوية الذهبية في العُلا. والجبل يعد من أهم المعالم السياحية في مدينة العُلا والتي يقصدها الزوار، ومحبو الرياضة الصحراوية ومتسلقو الجبال، كما تقام فيها فعاليات سياحية منها سباق الخيول.

قاعة مرايا

وإذا ما أردت أن ترى تحفة فنية حقيقية تتربع الأودية الصحراوية في العُلا عليك بزيارة قاعة مرايا التي تعكس كل ما حولها من طبيعة حيث تحتفل قاعة مرايا بالدور التاريخي المهم للعُلا، وتحتضن قاعة مرايا مشهد الثقافة والفنون وتستضيف العديد من الحفلات الموسيقية، والعروض الترفيهية، والبرامج الفنية الدائمة، والأفلام المحلية المستقلة لتحفر اسم العُلا كمركز ثقافي على مستوى عالمي، حيث كان فريق الرحلة على موعد مع الموسيقار ومطرب الأوبرا العالمي أندريا بوتشيللي الذي أقام حفلا في مسرح مرايا للمرة الثالثة في مهرجانات شتاء طنطورة.

أندريا بوتشيللي

وقد شارك الفنان أندريا بوتشيللي على خشبة المسرح نخبة من أفضل فناني الأوبرا الإيطالية من أوركسترا "استي سيمفوني"، مع مطربات السوبرانو كريستين الادو، وسيرينا جامبيرو، وكلارا باربييه سيرانو. عرض ساحر أبهج الجمهور داخل القاعة المزدحمة، والملايين من المشاهدين الذين شاهدوا الحفل على الهواء مُباشرة على شاشات عملاق الإعلام السعودي "إم بي سي MBC" وعبر منصاتها على يوتيوب.

وقد تحدثتُ إلى بوتشيللي وسألته عن زيارته للمرة الرابعة إلى العُلا، وقال لي: "إنه شعور رائع دائمًا أن أغني في قلب الصحراء في العُلا. فأنا اعتبر أن مجيئي من المدينة الكبيرة الصاخبة وضوضائها إلى هنا، تجربة تعليمية لا مثيل لها، ووجودي في مثل هذا المكان المسالم والشاعري بعيدًا عن العالم الصاخب من أكثر التجارب المفضلة لي على الدوام".

تعليق عبر الفيس بوك