خالد محمد خالد ومواقفه الجادة الصريحة

 

عبد الله العليان

يُعد الكاتب والمؤلف المصري الأستاذ خالد محمد خالد، أحد خريجي جامعة الأزهر، ومن مفكريها البارزين في حقبة الخمسينات والستينات من القرن الماضي، ومع أنه أزهري الفكر والثقافة، إلا أنَّه في مسيرته الفكرية حصل له تغّير لبعض الرؤى الفكرية الإسلامية، خالف فيها  بعض ما يراه العلماء في بعض قضايا الفكر الإسلامي، واعتُبرت من مستقرات الفكر الإسلامي، من حيث دور الدين في الحياة العامة.

هذا ما طرحه في كتابه الشهير "من هنا نبدأ"، وقد ردَّ عليه بعض علماء الأزهر، منهم الأستاذ محمد فريد وجدي في مجلة الأزهر في عدة مقالات، كما رد عليه الشيخ عبد المتعال الصعيدي في مجلة الأزهر أيضاً، ومن الردود المنطقية والهادئة على ما كتبه خالد محمد خالد، ما جاء في كتاب الشيخ محمد الغزالي: "من هنا نعلم"، وقد كانت بينهما وشيجة وعلاقة أزهرية في حياتهم الدراسية، لكن الحوار العلمي والمنطقي، أثمر تقارباً بينهما. بعد ذلك تراجع الأستاذ خالد محمد خالد عن رؤيته السابقة، حول ما طرحه في هذا الكتاب، وأصدر بعد ذلك العديد من المؤلفات الفكرية الإسلامية، ومنها: "عشرة أيام في حياة الرسول" و"دفاع عن الديمقراطية" و"رجال حول الرسول"، و"مع الضمير الإنساني في مسيره ومصيره"، و"كما تحدث القرآن"، و"في البدء كانت الكلمة"، إلى جانب عشرات الكتب الفكرية الأخرى.

ومن مواقفه الصريحة التي لا تعرف المُجاملة، ما ذكره شيخ الفلاسفة العرب، د. زكي نجيب محمود، في كتابه "قيم من التراث"، وأتذكرُ أنَّ هذا الكتاب صدر عام 1985، وقد كنت في السنة النهائية للدراسة الجامعة في مصر الكنانة؛ حيث يروي زكي نجيب محمود أن خالد محمد خالد كان عضواً في اللجنة التحضيرية لإعداد "الميثاق الوطني"، وكان د. زكي أيضًا أحد الأعضاء فيه، وعقدت اللجنة اجتماعاتها في شهر مايو 1962، وحضرها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر. ويذكر في هذا الكتاب قصة خالد محمد خالد وشجاعته في إبداء رأيه في قضية في اللجنة التحضيرية حول "تحديد الفئات التي يجب عزلها وحرمانها من الحقوق السياسية، ومعظم هؤلاء- بالطبع- من قادة العمل السياسي قبل الثورة، وممن ملكوا الضياع الواسعة والأموال الطائلة، وكان خالد محمد خالد عضواً في اللجنة التحضيرية، وكنت حاضراً"، حسبما ذكر د. زكي نجيب محمود.

ويضيف د. زكي نجيب في قصة ما جرى في الجلسة الأولى للجنة التحضيرية، لتطرح قضية "العزل السياسي"، وقال "... حتى نهض خالد محمد خالد ليرفع صوته جهراً بأنه لا عقاب ولا عتاب على من كانت حياته قد جرت وفق القوانين القائمة إذ ذاك؛ إذ كيف يحاسب صاحب أرض أو مال، جمع ثراءه في إطار قانون قائم؟". ويستطرد د. زكي في هذه الحادثة وبطلها خالد محمد خالد، فيضيف: "لمّا عقدت اللجنة التحضيرية جلستها الثانية في اليوم الثاني، حضر اجتماعها الزعيم جمال عبد الناصر، وفتح باب مع خالد محمد خالد، فيما كان خالد قد أثاره في الجلسة الأولى عن فكرة العزل السياسي ومدى مشروعيتها، ولم يكن خافيًا على أحد  من الحاضرين، ما انطوى عليه الحوار من تقدير عبد الناصر لخالد، تقديرٌ لم يكن ليتعارض مع رفض فكرته بالنسبة لمن كان يطلب حرمانهم من حقوق سائر المواطنين أو من تمَّت تسميتهم بمن أفسدوا الحياة السياسية".

وفي الجلسة الثالثة- كما يذكر د.زكي نجيب لإعداد الميثاق المشار إليه- حرس جيران خالد في مقاعد الجلسة التحضيرية على "... البعد قليلاً أو كثيراً عن اتقاء للشبهات خشية أن يُقال عنهم إنهم يشاركونه الرأي ولم يطمئنهم كل ما أبداه عبد الناصر نحو خالد من تقدير وتكريم، فأبى على خالد حسه المرهف إلا أن يزيد المسافة بُعداً بينه وبين هؤلاء عسى أن تطمئن قلوبهم بين ضلوعها، كل ذلك أذكره بوضوح، وكأنني أروي عما شهدته وسمعته صباح هذا اليوم".

ويقصد الفيلسوف د. زكي نجيب محمود، أن شجاعة الرأي والمجاهرة به ستلقى التقدير والاحترام، ولو لم يتم قبوله، ولذلك كما يرى د. زكي أنه يفترض: "عندما يعرض رئيس الدولة رأياً في موضوع مُعين، ويطلب من رجال الفكر آراءهم، فإنما يكون المطلوب هو أن يدلي رجال الفكر بوجهات نظرهم في طريقة التنفيذ... فماذا كان يصنع رئيس الدولة حرصاً على الشورى، أكثر من أن يطلب الرأي من أصحاب الفكر في حرية ونزاهة؟.. فيا ليتنا نواجه حقيقة الأمر الواقع بشجاعة، لكي نغيره من جذوره، لا من فروعه الظاهرة تاركين الجذور الدفينة تفعل تحت الأرض فعلها، وإذن فليس "من هنا نبدأ" بل نبدأ من هناك، من بعيد، من الأعماق، من ذخائر النفوس، "إن الله لا يُغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".

القصة التي أوردها د. زكي نجيب هي للعبرة والعظة، لما ينبغي أن يساهم به أصحاب الفكر والرأي بالطرح المنطقي والمشورة الإيجابية، وخاصة إذا طُلب منهم أن يقولوها، وهذه بلا شك ستجد التقدير والامتنان، إذا كانت بعيداً عن الأغراض والمصلحة الشخصية، وأيضاً هي أمانة في عُنق صاحبها، أن يُعبِّر عنها، وهذه بلا شك ستكون آثارها إيجابية، عندما يتم غرسها، وجعلها طريقًا للوصول إلى النجاح المأمول.