فيروفاكيس وحديثه مع ابنته عن الاقتصاد

 

 

علي الرئيسي

باحث في قضايا الاقتصاد والتنمية

 

ليس هناك نشاط إنساني يُهيمن على حياة النَّاس اليومية مثل الاقتصاد، ورغم ذلك فإنَّ أغلبية الناس لا يمكنهم الزعم أنهم على دراية كاملة بما يحدث في هذا المجال.

في كتاب وزير المالية اليوناني السابق يانيس فاروفاكيس بعنوان "أتحدثُ مع ابنتي عن الاقتصاد"، يقوم فاروفاكيس بمهمة شاقة لتبسيط المفاهيم الاقتصادية وكتابتها في لغة مُبسطة ومفهومة من قبل الجميع. فهو يتناول تاريخ الرأسمالية، محاولًا إزالة الكثير من الغموض عن أهم اللبنات  المكونة للاقتصاد، مثل الدين، والنقود، والسلع، والقيمة التبادلية، دون إغراق القارئ في المصطلحات الاقتصادية، وهو لا يستخدم حتى مصطلح الرأسمالية وإنما يستخدم مصطلح كارل بوليني (Karl Polany)  مجتمع السوق. ويؤمن هذا الكاتب بأن من حق كل مواطن أن يمتلك مبادئ اللغة والفهم ليتحدث بثقة عن الاقتصاد، ويعتقد أن ذلك شرطًا أساسيًا للممارسة الديمقراطية؛ لذلك يرى أن وجود لغة جديدة للاقتصاد يُعد مطلبًا ملحًا.

ويفتتح الكتاب بسؤال جوهري: لماذا يعم عدم المساواة في العالم؟ فيجيب فيروفاكيس بالعودة إلى فجر عصر الزراعة، وهو يُميز بين السوق "الذي يتم فيه تبادل السلع" والاقتصاد "يوجد فقط عندما ينتج شيء باستخدام العمالة". ويقول: لآلاف السنوات كان الإنسان يعيش على الصيد، وعلى ما كانت تهبه الطبيعة، طبعًا كان هناك نظام المقايضة، ولكن  منذ 12000 سنة بدأ الإنسان في إنتاج الغذاء، وبالزراعة ولأوَّل مرة زادت قدرة الإنسان على إنتاج فائض والذي أدى إلى تراكم لهذا الفائض بعد الاستهلاك؛ لذلك وجود هذا الفائض أدى إلى خلق الاقتصاد.

ووجود الفائض أدى إلى تقرير من يحصل وعلى أي كمية منه، كما أدى إلى خلق الدَّين (الذي أدى لوجود النقود، والكتابة والبيروقراطية)، وذلك لضمان توزيع الفائض حسب قواعد مُعينة مما أدى لوجود القوانين. ولحماية هذا الفائض من الأعداء تم إيجاد الدولة والجيوش أو حسب تعريف الفيلسوف الفرنسي ميشيل  فوكو لاحتكار العنف. ولضمان أنَّ الجميع يخضعون لسلطة الدولة، تم إيجاد سلطة دينية عملها تبرير وجود الفوارق في توزيع الفائض على أساس أنه أمر إلهي ومقدس، أما بالنسبة للرأسمالية فإن طبقتَها الدينية هم الاقتصاديون حسب فيروفاكيس.

التاريخ الإنساني في الأغلب هو تاريخ للنخب الحاكمة في صراعها مع بعض للسيطرة على فائض الإنتاج، وفي نفس الوقت أدى ذلك بشكل دوري إلى إخماد كل أنواع التمرد من قبل الأغلبية العاملة والتي تسعى للحصول على حصة أكبر من الكعكة.

يعقد فيروفاكيس مقارنة واضحة بين عرض النقد وسوق السجائر في معسكرات الاعتقال الألمانية لتفسير ظاهرة التضخم، الانكماش، وسعر الفائدة، وبإمكان أي مراهق أو إنسان بسيط أن يستوعب ذلك. ففي المُعتقل يستلم المعتقلون حزماً من الصليب الأحمر والتي تحتوي على أغذية، سجائر، قهوة وشاي. مع مرور الوقت وفي السجون في كل أنحاء العالم تصبح السجائر عملة للتبادل، والتي يتم بها شراء الحاجيات الأخرى. وكلما قام الصليب الأحمر بتوزيع كميات أكبر من السجائر في هذه الحزم، أي عندما تصبح كميات أكبر من السجائر في متناول الجميع يفرز هذا الوضع  التضخم. وعندما يتم قصف هذه المعسكرات وتحترق كميات من هذه السجائر، فإننا سنشهد نوعاً من الانكماش؛ حيث يكون المعروض من هذه السجائر أقل. وعندما يكون الطلب على السجائر مرتفعًا وتكون السجائر مطلوبة، حالها حال المعادن النفيسة، فإن بالمقدور أن يتم ادخارها. وفجأة يظهر المصرفيون الذين سيقومون بإقراض المسجونين السجائر بسعر فائدة، وهم على ثقة بأنَّ المقترضين سيدفعون أكثر من الكمية التي تم اقتراضها. وفي وقت التضخم وعندما يسود اللايقين، فإنَّ سعر الفائدة على هذه القروض يرتفع والعكس هو الصحيح.

الرأسمالية، حسب فيروفاكيس، هي أعظم آلة كفؤة وُجدت لخلق وزيادة هذا الفائض، غير أنها تعاني من مشكلٍ أساسي ومهم: وهو أنها هيكليًا تفرز اللامساواة والتي تؤدي باستمرار إلى خلق الأزمات.

ويدعو فيروفاكيس والذي هو أحد قادة حركة يسارية أوروبية في نهاية الكتاب، إلى "دمقرطة القرارات"- أي جعلها قرارات ديمقراطية- في المجال الاقتصادي، كما يتهم النظام الحالي بالخضوع إلى هيمنة الأوليغاركية (حكم الأقلية) العالمية، التي حسب قوله لا تخضع للمحاسبة من أحد.