علي بن سالم كفيتان
حدثني أحدهم قائلًا: كنتُ في طريقي، وقبل الدوار استوقفني رجل مُسن تبدو عليه علامات الكشخة، أوقفت السيارة وأتاني يسير ببطء ومد لي رأسه من النافذة يُحدثني بلهجة أهل الريف بعد أن تفحص وجهي تمامًا، وقال: وين رايح؟ قلتُ له أركب أوصلك إلى حيث تشاء، فقال: أنا لا أركب مع كل النَّاس وسأل أنت ولد من؟ طمأنته.. فضحك وشدَّ الباب فأدخل عصاه الغليظة، ثم دخل السيارة على مهلٍ حتى استوى على الكرسي وأغلق الباب بعنف شديد، وقبل أن تتحرك السيارة، قال لي: لقد نهرتني أم العيال الصباح وأسمعتني كلامًا مثل السم الزعاف، صارخةً في وجهي وهي تقول: بالأمس نفرت جميع إبلنا ونصفها ما زال ضائعًا من صخب وضوضاء المصنع الجديد، وثلاثة من أبنائك نائمون لا شغل ولا مشغلة.
وقالت مُسترسلة: سلمى جارتنا قالت لي "الافتتاح اليوم روح يا رجال وحضر معاهم عساهم يوظفو حد من الأولاد ولّا البنات اللي راقدين فوق شهاداتهم من سنوات". يقول لي الشايب: "بيني وبينك ولدي رحت بس عشان أحرف وجهي عنها تراها هلكتني كل يوم على نفس الموال، زمان كنت أقدر أدخل هذه الشركات وأتصرمح من مُدير إلى مدير وكل شركة موظفوها لون واحد، تصدق كأنها أشجار ثمارها واحدة، ما حد له نصيب معهم، وآخر النهار يتكرم عليَّ بعض الحراس من أولادنا في البوابات ويرجعوني للسكن في القرية.. تصدق ولدي- والحديث ما زال للشايب- زمان كنت أرعى هنا المواشي واليوم شوف إيش صار"!
ويضيف: "زمان أول لما يفتتحوا منشأة في المنطقة يدعوننا للحضور، وعلى الأقل نحصل معاهم غداء، ونسلم على شيوخ الدرجة الأولى اللي داخلين من هذه الشرايك، وفيهم خير إذا انتخيناهم، يوقفوا لنا ويساعدونا بالكلمة الطيبة، حتى مسؤولين زمان يخابرونا ونعرف معدنهم.. لكن اليوم يجيك واحد صغيرون حالق لحيته وشنبه ويقول ليش واقف هنا، وينادي لك الحرس يشلوك للخارج، كأنك شحّاذ، هذيلا ما راح يجيبون خير للحكومة ولا للشعب.
وعندما اقتربنا من مكان الاحتفال دس يده في جيبه وأخرج كمامة تغير لونها من الاستعمال ولبسها وتنحنح وحرك الخنجر لمكانه وارتز على الكرسي وحط يده على الباب، وطبعًا أنا لا دخل لي بكل السالفة، أنا مجرد "موصلاتي". قال العسكري: "لَوِين؟!".. قال الشايب "مع أصحاب الحفل"، ردَّ عليه بحزم "ممنوع الدخول"، حاول الشايب أن يخشن في الكلام ويستحضر الأيام الخوالي، لكن الحارس ظل مُنغمسًا في حديثه مع زميله، ثم قال للشايب بكل برود "وبعدين هذي الأسطوانة.. شبعنا منها"، وناداني بصوت عالٍ "دور السيارة وارجع"، فقلت له "والشايب؟"، قال: "شله معك من حيث جبته، خلاص الحفل بدأ والجماعة بيخلصوا بسرعة". التفت إليَّ الشايب وقال بكل برود: "أنا بنزل هنا وأنته توكل.. إيش بقول لأم العيال، هذا انسحاب مُبكر جدًا يا ولدي"، قلت له "الله يساعدك"، وناولته قنينة ماء، يستعين بها على الصمود.
فجأة أقبلت سيارات بكل الألوان والأشكال تشفط الطريق وفُتحت الأبواب على مصراعيها؛ لتخرج مسرعة كالبرق، بينما صاحبي واقف بكامل قامته في وجه تلك العاصفة، وبعد ثوانٍ عدُت أراه شيئًا فشيئًا مع تراجع كومة الغبار التي لفت المكان، وقال الحارس بكل حزم للشايب "عمي.. الحفل خلص، والنَّاس راحت شل عمرك"، قال بكل أسى: "البقاء لله.. إيش أقول الآن لأم العيال"، ثم نزلتُ من السيارة وقمت له مواسيًا، ونفضنا بعض الغبار عن لحيته وحاجبيه، وعدنا أدراجنا، ولم ينطق الرجل ببنت شفة، ورأيتُ في وجهه الخذلان وقلة الحيلة، وبعد دقائق قال : "وصلني لعند المسجد أغسل وجهي وأصلي الظهر، ومن هنا برجع مع حد من الجماعة للسكن"، قلت له وأنا أحاول أن أقلل من وطأة الموقف عليه "بالله عليك ياعم إيش بتقول للحرمة اللي منتظرتك في الدار؟".
وجه نفسه ناحيتي وضحك بشيء من الحنكة، وقال "بقول لها لما وصلت الباب وجدت رجال عنده قائمة وفيها أسمي ضمن المدعوين للحفل وكان معي ولد مسكين حصلني على الطريق وشلني، فقلت للحارس ما أدخل إلا مع صاحبي، فرد عليّ بكل احترام مرحبًا بك عمي أنت وصاحبك، ولما وصلنا للقاعة الفخمة، استقبلني شاب متخنجر ولابس في رقبته خيط تتدلى منه ورقة فيها كتابة، وقام يروح قدامي حتى وضعني في الصف الأول، وكنت أنا الوحيد المدعو من أصحاب المنطقة، نظرتُ يمينًا وشمالًا لأتأكد فلم أجد أحدا سواي وسط هذه الحظوة الكبيرة من رجالات الدولة، استمتعتُ بالعرض المسرحي ولفت انتباهي واحد لابس صبيغة ومحفيف وصوته مثل الرعد فقلت في نفسي ونعم ابن بلادي! وبعدها صعد رجل على المنصة وتحدث بلغة الملايين من الريالات التي سوف يجنيها المشروع وآلاف الوظائف المخصصة لأصحاب المنطقة المتأثرة بالمشروع، فتذكرتُ إبلي التي جفلت البارحة ولم يعد نصفها من وهج الإضاءات وهدير المعدات والمكائن، واستحضرت أبنائي الخمسة، فتخيل لي أنهم يلبسون ذلك اللبس الأنيق الموحد لهذه المنشأة العملاقة، وأنني أصبحت أملك بيتًا جميلًا في قريتي". وفي خضم حديثه قال: "لكنها لن تصدقني لأنني أكذب عليها في كل مرة"، قاصدًا زوجته!!