يناير المجيد

 

خليفة بن عبيد المشايخي

khalifaalmashayiki@gmail.com

 

تتشكل في عقول البشر نتيجة المشاهدات والمسموعات صورٌ ذهنية وبصرية مختلفة يبنى على أثرها قناعات كثيرة منها ما يكون إيجابيًا، ومنها ما يكون سلبيا، ويظهر حيال ذلك ميول تجاه مسارات متعددة، يأخذ هذا الميول حيزا من الأذهان، ويكون إما مصدرًا للطاقة والإيجابية، أو سبيلًا إلى إشاعة الفوضى والعشوائية وتعطيل العقل وإهماله، وشغل الباطن من الإنسان بما لا نفع منه ولا فيه.

وعندما تقف حواس المرء على أمر ما، فإنِّه يخرج عنه بانطباعات مُعينة، كما هو الحال لدى الذي رأى عمان قبل عام 1970، وبعد أن رآها بعد هذا التاريخ بسنوات ولو يسيرة، فقد انبهر ودُهش. فبعد سنوات من حكم السلطان قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه وتغمده بواسع رحمته وأسكنه فسيح جناته- تغيرت ملامح الأمكنة، وتبدل وجه الأرض بسبب منجز يكبر هناك، وآخر يعلو ذاك بذاك.

لقد بات في حكم المؤكد لدى العقلاء منذ أن خلق الله الأرض ومن عليها، أن الرحيل سُنّة إلهية على جميع الخلق، ولكن في الآدميين ليس الرحيل واحدا، فكم من أناس أحياء ولكنهم في الناس أموات.

فحينما حمل هو الأمانة وصار بها، كان يدرك تمامًا أنه سيسلمها لغيره يومًا ما، فكان بشخصه دعوة وأسلوب حياة يمشي على الأرض، وكان منهاجا ودستورا ومدرسة وأخلاقاً يستمد منه الفضيلة والحكمة والعمل، والتفاني والإيثار والتسامح، وكان رحمه الله متواضعًا من غير تكبر، وقائدا محنكا من غير نقص وتبرم.

فمضى من يومه يشعل أنوار الجمال في كل المدارات، وشرع مع بدايته بسلامه الداخلي مفعلا للقدرات الحقيقية التي كان يتمتع بها كمنارات، فلم يكن يعرف المستحيل طبعا، وطوع الطبيعة بطموحاته فجعل منها واحات غناء شبعا، وقهر الأفكار المحبطة وجعلها تستسلم له معلنة الانهزام طوعا.

ومنذ أكثر من خمسة عقود لم تكن تلك العقول تتوقع أنَّ ثمة رجلا سيغير وجه الغبيراء، ولم يكن يدور بخلدها أن أمراً ما سيجعل أرضها قبلة للسلام، وأرض تضحى في غضون فترات حلة قشيبة مبهرة عمها التطور، وسادها التحديث والتحول. ولم تكن تلك الوفود تستقريء مستقبلها بأنها ستكون إقليما ذا سيادة، وقطرا حديثا متجددا ذا مكانة، وبلدا حضاريا متقدما يضرب به الأمثلة، ويسرد في حكايات الساسة، ويذكر عبر الأزمان وفي وقت كان له ناسه وجلاسه.

إن كمية النجاح ومقداره الذي يحققه إنسان ما، يعطي مؤشرا على مدى الذكاء الذي كان يتمتع به، فتحويل أرض قاحلة إلى أرض حية خصبة تنبض بالحياة ليس بالأمر السهل والهين، وإعمار بلد من الصفر وجعلها في مصاف الدول المتقدمة من حيث العمران ورقيها وتمدنها، ليس شيئا بمقدور أي أحد فعله، إلا أنه فعله.

نعم لقد فعل السلطان الخالد فينا- طيب الله ثراه- المستحيل، ففجر الأرض ينابيع، وصنع خارطة طريق مشرق متنور لبلد عربي مسلم، دخل أهله في الإسلام طواعية.

لقد جرت الأيام سريعة ولم نكن ندري أنها تحمل في ثناياها أمرا جللا وخطبا جسيما، فاليوم وبعد مضي أشهر على الحادي عشر من يناير من عام ٢٠٢٠، نفتش هنا علنا نتوهم ما حدث، ونشيح بوجوهنا يمنة ويسرى علنا نكذب ما جرى، وإذا بالحنايا والضلوع ثكلى باليتم والأسى.

إنَّ يناير حين جاء جاءت معه ذكرى رحيل سلطاننا قابوس- طيب الله ثراه- وجاء يُعيد المشهد منذ بداياته في 23 من يوليو من عام 1970 إلى يوم الرحيل الأبدي له رحمة الله عليه.

وفي الوقت نفسه جاء يناير واستحضرت فيه صورا شتى من الرحيل والوداع والتشييع وهيبة الموقف، جاء يناير وأتى معه حزن كبير وكثير وعالٍ، جاء ليختبر قلوب العمانيين هل لا زالوا محبين لقابوس السلام طيب الله ثراه.

فوجدنا مغمورين بحبه ومتلهفين عليه رغم صدق الفقد والغياب، وجدنا أوفياء حتى النخاع، وكرماء له أبًا عن جد، وسنبقى على الولاء والحب والسمع والطاعة له ولخليفته، وعاملين بهذه الوصية التي تقول: "إننا بعد التوكل على الله ورغبة منِّا في ضمان استقرار البلاد، نشير بأن يتولى الحكم السيد هيثم بن طارق، وذلك لما توسمنا فيه من صفاتٍ وقدراتٍ، تُؤهله لحمل هذه الأمانة. وإننا إذ نضرع إلى الله العلي القدير أن يكون عند حسن الظن الذي دعانا إلى اختياره، والثقة التي دفعتنا إلى تقديمه، فإننا ندعوكم جميعاً إلى مبايعته على الطاعة في العُسر واليُسر، والمنشط والمكره، وأن تكونوا له السند المتين، والناصح الأمين، معتصمين دائماً تحت قيادته بوحدة الصف والكلمة والهدف والمصير، متجنبين كل أسباب الشقاق والفرقة والتنديد والتناحر، عاملين بقوله تعالى(ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) صدق الله العظيم.

نعم مولانا جلالة السلطان هيثم المعظم- حفظه الله ورعاه- نعاهدكم أن نبقى الجند الأوفياء والحراس الأمناء لهذا الوطن ولكم، ويا يناير إن عودتك في كل عام، تزيد من تلاحمنا وتقوي من عزائمنا.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة