نزيف الخبرات.. من يضمده؟!

 

إسماعيل بن شهاب البلوشي

كنت أريدُ أن أكتبَ عنوان مقالي لهذا الأسبوع "من يعالج من؟" لأن ما حدث بوجودي في دولة ما يستحق أن تكتب فيه توضيحات وتأملات ودروس مُفيدة لكل مخطط ومقرر في جوانب الحفاظ على الخبرات لأهميتها، وكذلك لتفحص وقراءة المشهد العلمي والإنتاجي للدول الأخرى.

طبيبٌ مُسن لا أستطيع أن أجزم عمره، غير أن الحدث يدل وبوضوح على تقدمه في السن؛ حيث كان يلتف حوله عشرات الأطباء وهو يمر على مرضاه ليتحدث معهم ويصف لهم الدواء، بينما باقي الأطباء في صمت، إلا من نقاش قليل. من يصدق أن ذلك الطبيب كان يدفع على كرسي كبار السن؛ حيث كان من الصعب عليه أن يمشي بسهولة لتقدمه في العمر. لكن السؤال المهم: أين تكمن الخبرة؟ هل في الأقدام أم في العقول؟ ولماذا لم يكن مع المجموعة التي أحيلت للتقاعد؟

من يقول إنَّ الإجابة سهلة وحتى قرار التقاعد سهل، فإني أراه ينظر إلى الأمر من زاوية محدودة، إلا أن الأمر يحتاج إلى تحليل أكثر شمولية وأعمق بُعدًا، في مجمل الإنتاج الوطني للفرد ليكون ضمن الإنتاج العام لأي وطن، وأن السلوك العام للعقل والإبداع وتراكم الخبرة هو العطاء الذي يقابله التقدير، وكذلك الحفاظ عليه من قبل المعنيين بقرار بقاء تلك الخبرة من التخلص منها.

أرى أن هناك ضبابية كبيرة حول قرارات التقاعد ليس في معناها العام، لكن في عدم المقدرة والجرأة على تحديد العناصر الفعّالة والمهمة والتي لا يُمكن وبأي ثمن التفريط فيها؛ بل إن الحفاظ عليها يعد مكسبًا وطنيًا مباشرًا وغير مباشر، ورسالة صريحة للأجيال بأن أهل العطاء يُكرَّمون بالأوسمة والجوائز والشهادات، والعكس صحيح؛ فالدول تدفع المال والوقت لبناء تلك الخبرات وفي حين غفلة من الجميع يذهب كل ذلك إلى نهايته بالتقاعد، معتقدين أن العمر بالسنين هو كل ما يملك المرء لاتخاذ قرار، دون أي تمييز؛ لتكون النهاية غير الإيجابية اليوم أننا بحاجة إلى نص قانوني وإعادة النظر في هذا الجانب، وفق قرار متعمق ومسؤول، وأن يكون الموضوع في منتهى المصداقية والأمانة والحرفية، مع البعد كل البعد عن الرغبات بكل أسبابها، وأن يكون لدى المسؤول الصلاحية المناسبة والفعَّالة في تلك الانتقائية التي لا بُد منها، وأن تُقاس العقول بالعطاء لا بالنسبة والحسابات الرياضية؛ سواء كانت مالاً أو سنوات من العمر. وبذلك يمكن أن تكون قراراتنا المفصلية المهمة والتي تخص التعامل مع المتميزين أكثر إيجابية وأكثر استغلالاً للعقول التي من المؤسف أن يكون مكانها العزل القسري.

أيضًا أرى من الأهمية بمكان دراسة السماح من عدمه، عمل بعض الكوادر في مؤسسات خاصة شبيهة بعملهم؛ لأن بالأمر كثيرًا من الجوانب التي يمكن أن تؤسس لمسار غير مناسب وإلى حد بعيد وعلى حساب المؤسسات الحكومية، والتي يمكن أن تذوب في مستواها، ومع الزمن ستكون حتمًا سلوكًا من الصعب تعديله، خاصة وأن الدول التي سمحت بمثل ذلك النظام أصبح التهميش وهبوط المستوى- بل سمعتها في كثير من الجوانب وخاصة العلمية والطبية- في مستوى لا يُناسب الجميع، وتوجهت كل الكوادر إلى بناء مصالح شخصية هزيلة.

اليوم.. نحن في وطننا والحمد لله وأقولها بكل مصداقية؛ بل ومسؤولية، في المجال الطبي مثلاً فإننا نعد من أفضل الدول؛ فلنحافظ على هذا المستوى ولنكن أكثر بعداً بين التفاضل والأفضل.