القدس إن حكت!

 

د. رفعت سيد أحمد

ستظل القدس برمزيتها وتاريخها الطويل رمزا ثابتا  مقدسا للقضية الفلسطينية ولعدالة مطالب أهلها الفلسطينيين وأمتها العربية والإسلامية، ومهما حاول الغرب وإسرائيل  من سياسات ومواقف وتعنت ..ستظل القدس رمزا  لا يموت لحق شعب ناضل ولايزال من أجل استرداد حقوقه المغتصبة.

واليوم ومع التطورات المتلاحقة في الملف الفلسطيني والأحداث الدامية التي تجري في فلسطين وفي القدس تحديدا، نحتاج إلى إعادة بحث في الجذور لنثبت تلك الحقوق في ذاكرة الأجيال القادمة وبأن عروبة القدس حقيقة تاريخية ثابتة، لن تلغيها أبدا سياسات تهويد إسرائيلية  دائمة ودامية، فماذا عن القدس جذورا وهوية؟

يحدثنا التاريخ عن القدس ليقول إنه في عام 135 ميلادية، وبعد ولادة الرسول الكريم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في العام 571م، عاد الفُرس لاحتلال مدينة القدس، وجاء في القرآن الكريم في سورة الروم: " الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ* فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ" (الروم: 1-3)، فعاد الروم ثانية للسيطرة على القدس، وكان الفتح الإسلامي لها زمن الخليفة عمر بن الخطاب، وكانت تسمى حينها "إيلياء"، وجاء فيما بات يُعرف بالعهدة العمرية لأهلها:

"بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أماناً لأنفسهم، وأموالهم، ولكنائسهم، وصلبانهم، وسقيمها، وسائر ملتها أنه لا تُسكن كنائسهم، ولا تُهدم، ولا يُنتقص منها، ولا من خيرها، ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم، ولا يُضار أحد منهم، ولا يُسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود، وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن، وعليهم أن يُخرجوا الروم منها، فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن وعليه ما على أهل إيلياء من الجزية....هذا كتاب عهد الله، وذمة رسوله، وذمة الخلفاء، وذمة المؤمنين...شهد على ذلك خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان". المرجع: تاريخ الطبري.

وصلى عُمر رضي الله عنه في القدس؛ حيث صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم أثناء معراجه إلى السماء، ولم يُصلّ بأية كنيسة حتى لا يُؤخذ ذلك عنه، وقد كنس الأرض بردائه قبل الصلاة، وكنس معه المسلمون، وصلوا جميعهم.

***

لقد بقيت فلسطين، وبيت المقدس تحت الحكم العربي إلى أن غزا الإفرنج المنطقة، وعن تلك المرحلة يذكر كتاب "نجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة" لابن تغري بردي ما نصه: "وكانت البنات المخدرات يمزقن ثيابهن، ويربطنها على أرجلهن من الحفا، ومات خلق كثير من الجوع والعطش، ونُهبت الأموال التي كانت في القدس، وبلغ ثمن قنطار الزيت عشرة دراهم، ورطل النحاس نصف دينار".

وقال القاضي مجد الدين محمد عبد الله الحنفي قاضي الطور في خراب القدس شعراً على الإفرنج:

مررت على القدس الشريف مسلماً على ما تبقى من ربوع كأنجم

ففاضت العين مني صبابة على ما مضى من عصرنا المتقدم

وقد رام علج أن يعفي رسومه وشمّر عن كفيّ لئيم مذمم

أعاد صلاح الدين الأيوبي القدس بعد تحريرها إلى إسلامها، وعروبتها، وعن الواقعة يقول ابن تغري بردي في كتابه: "لما رأى العدو ما نزل بهم من الأمر، وظهرت لهم إمارات فتح المدينة، وظهور المسلمين عليهم، وكان قد اشتد روعهم لما جرى على أبطالهم ما جرى فاستكانوا إلى طلب الأمان، وسلموا المدينة في يوم الجمعة السابع والعشرين من رجب، وليلته كانت ليلة المعراج المنصوص عليها في القرآن الكريم فانظر إلى هذا الاتفاق العظيم".

****

هذا كان عن التاريخ، فماذا عن جغرافية المدينة المقدسة؟

إنها مُحاطة بالجبال من جهاتها الثلاث ... الشرق، الغرب، والجنوب، والشادّ لرحاله إليها عليه أن يتوقف طويلا ًعلى ذرى جبل الطور، أو جبل الزيتون الواقع في شرقها حيث يُعتقد أن المسيح عليه السلام صعد منه إلى السماء، ويُسمى هذا الجبل في التلمود بجبل المسيح، أو التتويج، وسبب تلك التسمية أن زيت الزيتون يُستخدم في تتويج الملوك، ولمزيد من الاعتزاز والفخار، ومن وَضع رحاله على جبل الطور يرى في الجنوب جبل المكبّر، وفي ذروة من ذراه قبر الشيخ أحمد أبي العباس، وهو من المجاهدين الذين اشتركوا في فتح القدس مع صلاح الدين الأيوبي.

وللمكانة الهامة والكبرى لهذه المنطقة عبر التاريخ، راح العديد من المؤلفين يكتبون عنها ومن هذه الكتب "الأنس في فضائل القدس" و"الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل"  و"الجامع المستقصي في فضائل المسجد الأقصى" و"باعث النفوس إلى زيارة القدس المحروس" و"مثير الغرام إلى زيارة القدس والشام" و"فضائل القدس". وقد تعددت الشروح لمعانيها، ففي كتاب "التعاريف" يقول مؤلفه: "القدس طهارة دائمة لا يلحفها نجس باطن، ولا رجس ظاهر"، والناصر خسرو مؤلف كتاب "سفر نامه" كتب: "ويذهب إلى القدس في موسم الحج من لا يستطيع الذهاب إلى مكة من أهل الشام وأطرافها"، وليتأمل كل من فرط فى القدس فى هذه المنزلة الجليلة لها والتى تتساوى مع منزلة مكة المكرمة.

ومما يقال عن القدس ما نسب للمتصوفة الذين قالوا إن ماءً للقدس والقداسة، وفي عُرفهم هو العلم الذي يُطهر الناس من دنس الطباع ، ونجس الرذائل.

وبعد.. تلك القدس في بعض أبعاد قضيتها تاريخيا والتي تثبت عروبتها وتؤكد أنها لابد يومًا عائدة إلى أهلها مهما علا نجم التهويد والتطبيع المجاني من عرب ومسلمين لايعرفون للأسف قيمة ومعنى تلك المدينة المقدسة والتي ربط الله سبحانه وتعالى بين قداستها وقداسة مكة المكرمة وربط بين مسجد مكة الحرام وبين الأقصي الشريف في آيات واضحات تقطع بأن المنزلة والتحرير للقدس ومسجدها الأقصي واجب عبادي تماما كما المسجد الحرام بمكة المكرمة فقال تعالى في مطلع سورة الإسراء: "سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إنَّهُ هُو السَّمِيعُ الْبَصِيرُ" (الإسراء: 1).

إنه في تقديرنا ربط بين المسجدين (الحرام والأقصي)، ربط عبادة وتكليف بالتحرير، وليس ربط تاريخ وحكي وحواديث مللناها! والله أعلم.