السُّلطان والقِيَم

 

د. صالح الفهدي

السُّلطانُ رمزٌ للأُمَّةِ، ومجسِّدٌ لقيمها، ومضطلعُ بحمايةِ تاريخها، وصائنٌ لمكتسباتِ إرثها، وحينما ينبري جلالتهُ -أيَّدهُ الله- للحديثِ أمامَ الأَعيانِ عن تربية النشء لحمايتهم من المؤثرات التي تتساوقُ للنيلِ من أخلاقياتهم، فإنَّ تلكَ رسالةٌ لها ما لها من الأهمية.

واضطلاعاً بكونهِ أباً للشعبِ، وحافظاً لمقدسات الأُمةِ وعلى رأسها الأخلاقيةِ فإنَّ جلالتهُ قد أفردَ لتربيةِ النَّشء نصيباً من حديثهِ، إدراكاً من جلالته بما يتهدد الأجيال الناشئة من أخطار تتقصَّد إغواء أفكارهم، وانحراف أخلاقهم؛ إذ لا يَخفى على أحدٍ ما تتعرضُ له الأجيالُ اليوم من مؤثرات عميقة تسعى إلى توجيهها لغيرِ الوجهةِ الأخلاقية التي نشأت عليها الأجيالُ من قبلها.

في المقابل، فإنَّ هناكَ عواملَ أُخرى أضعفت من تربيةِ النشء؛ وهي ضعف ثقافة التربية لدى الوالدين، وقلة إلمامهما بتربية الأَبناء، وطرق التوافق بينهما لمنهج تربوي واضح للأبناء، وهنا ينشأ الأبناءُ مذبذبين بين طريقين غير متَّحدَيْنِ من التربيةِ!

أما العاملُ الآخر؛ فهو أن كثيرًا من الوالدين يظنَّانِ أنهما يربِّيانِ، بينما هما في الحقيقة يرعيان ولا يربِّيانْ! والفارقُ شاسعٌ بين الرعاية التي تُعنى بتوفير المأكلِ والمسكنِ والملبسِ، وبين التربية التي تُعنى بتعزيز القيم، وتقويم الأخلاق، والاجتهاد في تكوين شخصية الأبناء، وإشباع وجدانهم بالعاطفة، والحنان، وإمداد شخصياتهم بالقيم، والمفاهيم العليا، وتنمية قدراتهم، وصقل مواهبهم، وتعزيز الثقة في أنفسهم، وتعليمهم.

وفي معرض حديثي عن الفارق بين الرعاية والتربية، أذكر موقفًا عجيبًا حدث لي مؤخرًا؛ إذ شاهدتُ طفلةً تموءُ كالقطط، وتقومُ بحركاتٍ تشبه هذه الحيوانات، جاءت نحوي وهي تغمغم بأصواتٍ مبهمة لم أتبيَّن منها شيئًا، حتى أنشبت أظافرها في ساعديَّ بقوةٍ..! علمتُ أنَّ أمها قد حالت بينها وبين أُسرةِ أبيها، وسلَّمتها لعاملةِ منزلٍ تُربِّي فيه عددًا من القطط، والأُم مشغولةٌ بوظيفتها المرموقة، وقد يُنظر لها على أنَّها ناجحة في مجال عملها، ومن يدري فقد تُكرَّم في يومِ المرأة العمانية أيضًا!

هناك عاملٌ ثالث رئيس وهو عامل القدوة الفاضلة للأب والأم وهي قيمةٌ تربويةٌ أساسيةٌ تُغني في التربية عن الكثير من الوسائل، فإن كانَ الأبُ والأم قدوتانِ لأبنائهما أرفداهما بنسبةٍ تقاربُ 85 بالمئة من الأخلاقيات والسلوكيات السويَّة.

لم يعد مجتمعُ اليومِ هو مجتمعُ الأمس الذي كان يعتني بتربية الأجيال كأسرةٍ واحدةٍ يربِّي فيها جميع الآباء والأُمهات الأبناءَ أكانوا من نسلهم أم من نسلِ غيرهم؛ فالمجتمعات القروية كانت أُسرةً واحدةً يهمُّها شؤون بعضها البعض، بينما يفرق اليوم عن الأمس أنَّ شأن التربية قد أضحى أمراً يُسألُ عنه الوالدين على نحوٍ رئيس، كما تُسألُ عنه المؤسسات الأخرى وعلى رأسها المدارس.

أخبرني حضرة صاحب الجلالةُ السلطانِ هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- ذات مرَّة أنَّهم كانوا يدرسون في ستِّينيَّات وسبعينيات القرن الماضي حصَّة تُسمى "التهذيب"، وقد درسوها في جمهورية لبنان وفي المدرسة السعيدية بمسقط، فنقلتُ هذا الأمر إلى وزيرة التربية والتعليم، مقترحًا عليها أن تُنشئ حصَّة تعليمية تُسمَّى "قِيم"؛ فالحاجةُ ماسَّةٌ لمثل هذه الحصة النظرية/ العملية، لكن لم أحصل على ردٍ لهذا المقترح الذي كُنت على استعدادٍ لوضع الأفكار في كيفيةِ تفعيلهِ واستفادة الطلبةِ منه.

لا يجبُ أن نكتفي بنقلِ ما شدَّدَ عليه جلالة السلطان من أهمية تربية النشء، وإنَّما على المؤسسات الحكومية أن تُترجم هذا الاهتمام السامي لجلالته على نحوٍ عملي في إطارٍ مؤسسي، واضح الرؤيةِ والتنفيذ، فقد وضعَ جلالته الأمر في موضع الاهتمام اللافت للحكومة والمجتمع، فالمؤثرات التي يتعرضُ لها الأبناء قاسية وشديدة الوقع فضلاً عن الانحرافات الأخلاقية التي تتبناها الأُمم المتحدة بحجة المساواة في حقوق الإنسان وما هي في الحقيقة بحقوق وإنما شذوذ عن الفطرة الإنسانية السويَّة.

علينا جميعاً واجبٌ فرضٌ لبذل كل ما نستطيع من جهود لتحصين أبنائنا، وتعزيز قيمهم حتى تقوى شخصياتهم، وتترصَّن أخلاقياتهم فيمتلكون القوة لصدِّ أيَّةِ محاولاتٍ للنيل من أخلاقياتهم، وقيمهم التي نشأوا عليها، فوجودُ الأمة معقودٌ بأخلاقها، كما يقول أحمد شوقي:

وإنما الأُمم الأخلاقُ ما بقيت // فإن هُمُ ذهبتْ أخلاقهم ذهبوا