الغب والدكة.. قيم أصيلة

 

 

خالد بن سعد الشنفري

 

الغب، اسم محلي باللهجة الدارجة الظفارية يطلق على الساحة أو الميدان، ويسمى أيضاً الصرفة وسمحان وتوجد هذه الساحات في كل منطقة من مناطق ولاية صلالة وأيضا على امتداد المحافظة عمومًا من ضلكوت غربا إلى سدح في الشرق.

النظرة التاريخية لهذه الساحات أنها كانت بمثابة ملتقى ومركز لأهل المنطقة وكان في ذلك تأكيد لمعاني الألفة والترابط والمحبة بينهم، فقد كانت تقام فيها احتفالات أعراسهم وهي أيضا مقر هبوت القبايل وباقي الرقصات الشعبية، وكان إذا أقيم احتفال عرس فى غب أي منطقة من هذه المناطق يفد إليهم قبائل من المناطق الأخرى بالسير السريع رجزاً (هبوت زامل العسير) لتقصير مسافة الطريق ويشاركونهم الهبوت وقصائد المدح للعريس وأهله وقبيلته، وأيضًا كانت قديما تقام فيها احتفالات ختان الذكور من أبنائهم إيذانا بدخولهم مرحلة الشباب والرجولة، وهي عموما مقر دائم لكل مناسباتهم وشؤونهم.

غب كل منطقة من هذه المناطق، وكانت تسمى بالحواف (حافة كذا...) ولا يعرف تاريخ زمني محدد لتأسيسها، إلا أن وجودها قديم جدا ولا زالت قائمة إلى اليوم لم تمس، رغم أن أهالي هذه المناطق قد هجروها للأسف الشديد منذ بدايات النهضة!

ذكريات الغب وكان يسمى فى الحافة على سبيل المثال (غب سمحان) وفى مرباط (أريبدات) باللغة الشحرية الجبالية وتعني المساحة المفتوحة من الأرض وهي تصغير لكلمة (أيرديت) الشحرية وتعني المساحة المفتوحة الكبيرة، وتكاد ذكريات الغب عموما لاتفارق حياة من عاش تلك المراحل وتصبح جزءًا منها كالبيت والأسرة والمدرسة (كتاتيب) والمسجد، ولا يكاد الشخص يعود بذاكرته إلى الوراء إلا وتتراءى له كونها كانت جزءًا أساسيا من نشأته وحياته.

ويقع الغب عادة في وسط المنطقة السكنية أو فى الجهة منها التى تشرف على البحر أو المزارع المفتوحة للتهوية والبعد النظري على ما يبدو، وبجوار كل غب مسجد جامع إما أن يكون أسس بعد تخصيصها أو أن يكون موغلا في القدم وقد اختطت بجواره لكي يتمكن الناس من الشرب من ماء زاوية هذا الجامع الباردة وأيضا للوضوء وإقامة الصلوات.

هذه المناطق السكنية كصلالة الشرقية وصلالة الغربية والوسطى ومنطقة الحافة كانت متقاربة نوعًا ما في نطاق صلالة الكبرى، عدا منطقتي عوقد والدهاريز المبعدة نوعًا ما عنهما؛ نظرا لعدم توفر وسائل مواصلات سريعة آنذاك، ولكون هذه التجمعات السكانية وإن كانت تقطن في كل منها عائلات وأسر معينة، إلا أن النسيج العام لكل سكانها جميعًا واحد تربطهم وشائج القربى والمصاهرة والدم والجيرة فيتواصل هذا التلاقي بينهم انطلاقاً من هذا الغب، وهكذا يستمر التواصل والتزاور بينهم دون انقطاع مهما بلغت الشقة.

هذه الظاهرة الاجتماعية الحميدة ما زالت آثارها باقية فيهم؛ بل متأصلة إلى اليوم رغم التوسع والتمدد العمراني الحالي الذي أدى إلى تباعد سكناهم نوعًا ما.

الدكة، مصطلح عربي يقصد به المقعد المُستطيل، وتكون الدكة ملحقة بمعظم جوامع ومساجد ظفار وهي في مفهومها أشبه بالسبلة في باقي مناطق عمان وتؤدي نفس الدور؛ حيث يتجمع الرجال، خصوصا كبار السن فيها قبل صلاة المغرب بفترة ويستمر إلى وقت صلاة العشاء وبعده أحيانًا.

في الدكة يتبادل الناس السلام والسؤال عن بعضهم وفيها يتم تبادل الأحاديث ومنه يستفيد الجميع وخصوصا الصغار والشباب الذين تشدهم حكايات وتجارب الكبار فيحرصون عليها، مما أتذكره وكان يشدني الاستماع إلى ذكريات أسفارهم وما يتناقلوه عن أخبار الثورة ومن قابلوه في سوق الحصن أو ماركيت الحافة من أهل الجبل الذين ينزلون لبيع منتجاتهم من السمن والحطب وخلافه وأيضاً أخبار العالم العربي، وما يتعلق بأخبار الحرب والصراع العربي الإسرائيلي ممن لديه ترخيص مذياع في بيته وكانوا قلة قليلة يعدون على الأصابع ويلتقط إذاعة صوت العرب أو بي بي سي لندن العربية أو ممن استمع لذلك عند من لديه مذياع.

الدكة كان لا يُفارقها كبار السن وكان لها دور أيضًا في منتهى الكرم في الاستقبال والترحاب بأي عابر سبيل أو غريب عن المنطقة أو قاصد حاجة، فيتم أولا إكرامه بضيافة الطعام؛ حيث لم تكن موجودة ثقافة المطاعم والمقاهي حينها فيأخذ من بالدكة من الكبار بأحد الضيوف إلى منزله لوجبات الفطور والغداء والعشاء بعد كل صلاة. أما نومهم فيكون في المسجد؛ حيث يعد حرمه آمنًا وحتى من كان له راحلة منهم يربطها فى الساحة خارج المسجد، ومن الدكة ينتشر خبر هؤلا والغرض من زيارتهم للمنطقة فقد يكونون يسعون لطلب الشتر للوفاء بدية ثأر أو حاجة يقضونها في المدينة، وفيها أيضا يحل أبناء المنطقة خصوماتهم وخلافاتهم الشخصية وينفذ منها في ساحة المسجد حكم القصاص للأروش والكسور الذي يفصل فيه شيوخ السنة في القبيلة وحدود هذا التنفيذ بواسطة مختصين بذلك من القبيلة.

اليوم وبعد أن حل الإعلام بصحافته وقنواته التليفزيونية وبعده الهاتف الذكي ووسائل التواصل الاجتماعي وانتشرت مراكز الشرطة ولجان الصلح والمحاكم، انتهى دور الدكة رغم وجودها حتى اليوم في معظم مساجدنا الحديثة ولكن تيمنًا بالماضي على ما يبدو ليس إلا، وأصبح الغب كذلك بدون رواده ونسيه التاريخ أو أهمل أمره وحلت محله ميادين ومراكز الاحتفالات الحديثة المتوفر بها كل وسائل الراحة والتي أخذت فى الانتشار ووصلت مؤخرًا إلى منطقة الخذف بالربع الخالي.

لكل زمان غب ودكة، ولكل زمان دولة ورجال.

"وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ" صدق الله العظيم.