غرق في الصحراء

علي بن سالم كفيتان

سكن الليل.. كنَّا نضحك مُتحلقين حول النَّار ونستمتع بمراقبة وجه السماء وهو يزدحم بالنجوم، كان الجو باردًا ونسمات الشمال تزحف على مُخيمنا بهدوء، فتشعرنا بلسعات الشتاء، ومع ذلك ظل الجميع يركض ويلعب ويستمتع برشفات الشاي الذي صنعته أمي على الجمر، إنها تتلحف جيدًا وتنظر إلينا من جلستها قرب النَّار، فتارة تسرح حتى نحس أنها ليست معنا، وتارة تُنادينا لكي لا نبعد عن المخيم، وتذكرنا أنَّ الصحراء متاهة، فمن يخرج قد لا يعود.. نستمع لها ونذكّرها بحرصنا على البقاء آمنين، وبعد منتصف الليل بقليل أطفأت أمي النار وجرت رداءها وهي مثقلة لتدخل المخيم، عدنا للنار وأشعلناها، بينما هي نامت فكانت هي المرة الأولى التي تنام قبل الجميع.

ذهبتُ إلى قرب رأسها، وجلست بهدوء، فإذا هي تغط في نوم هادئ، قلت في نفسي الحمد لله، الظاهر أنها كانت مرهقة من المشوار والطرق الطويلة، وربما نسيم البادية خدر جسدها... انسحبت من عندها ونفسي قلقة عليها، ناديت الجميع وأدخلتهم لمخيماتهم في ظل معارضة كبيرة من البنات الحالمات مع النجوم والنار ونسيم البادية البارد وبقايا الخبز اليابس مع الشاي والحليب، لكنني حاولت أن أكون حازمة، فهذه الصحراء هي المجهول بالنسبة لنا كريفيين تعودنا على ثبات الأشياء ووضوح معالمها، فنادرًا ما يتكرر مشهد في بيئتنا، لكن هنا كل شيء متحرك والأمكنة مستنسخة من بعضها البعض، فطوال مسير 80 كيلومترًا، كُنّا نمشي في نفس المكان حتى وصلنا في المساء؛ حيث استقبلتنا الشموع المعلقة والخيام المنمقة والخدمات المغروسة في الرمال، كل شيء يبدو لي مصطنعًا، فرغم تفرد المكان وجماله البادي لعيني، إلا أنني أشعر بالخوف مما هو خلف هذا المشهد.

سكنت إلى خيمتي وحولي خليط من الأبناء والبنات من جميع أسر العائلة بعضهم خلدوا للنوم، والبعض متذمر، والآخرون يتصفحون هواتفهم تحت الشراشف، فيبدون لي في الظلام كالنجوم داخل هذه الخيمة الواسعة، يتبادلون الضحكات بهدوء، وأظنهم يتراسلون الصور التي التقطوها للرمال والمخيم والنجوم والنار وحركاتهم الطفولية على أطراف الكثبان في المساء، وبعد ساعة سكن الجميع إلا فاطمة التي قامت عدة مرات متحججة بالذهاب لبيت الخلاء، لكنها لم تكن تفعل؛ بل تتسلل لخيمة أمها النائمة لتطمئن عليها، وعند عودتها الأخيرة سألتها من تحت غطائي وفي جنح ذلك الظلام الدامس: ما بك يا فاطمة؟ أجابتني بصوت مُتهدج: "فقط أطمن على أمي يا خالة".

أيقظني صوت الصنبور رفعت الغطاء قليلًا ونظرت، فإذا هي تتوضأ للفجر، كانت ملتحفة جيدًا وتغالب البرد للوضوء، قمتُ متثاقلة وسحبت أقدامي لذات المكان، بينما هي غادرت لخيمتها وأشعلت الضوء الخافت، أرى ظلها الواقف أمام الله من خلف القماش الشفاف للخيمة.. راقبتها حتى جلست على الكرسي الذي يساعدها على إتمام الصلاة، وانصرفت لصلاتي بين جموع النائمين، وحرصت على إسماع صوتي لإيقاظهم فأتممتُ الصلاة وأذكار الصباح وانصرفت إليها، لعلنا نستمتع ببعض الوقت الجميل قبل أن يصحو الجميع وندخل في زحمة بقية الرحلة وتضارب الآراء والرغبات فتفاجأت أنها عادت لفراشها ونامت على غير العادة... تسلل اليَّ الشك والخوف عليها وانسحبت بعد أن ناديتها مرتين بصوت خافت ولم ترد.  

أيقظتنا الشمس جميعًا وكلٌ انشغل بنفسه بين أخذ الفطور وتصوير الشروق ومقتنيات المخيم الجميلة من خيام شعر بدوية وجلسات بألوان زاهية، والبعض يقترح موقعًا بديلًا لقضاء النهار، والبعض يريد العودة إلى المدينة وإنهاء الرحلة، وأمام هذا السيل من المقترحات اتفقنا على قضاء ظهيرة ذلك اليوم في إحدى الواحات الصحراوية الجميلة التي تتوافر بها أشجار السمر ويقرب منها بئر ارتوازية تتناثر حولها نباتات القصب الأخضر، مشكلة لوحة نادرة في بحر رمال الصحراء الصورة الذهنية التي وضعها صاحب المقترح جعلت من الجميع يلم أمتعته على عجل ويكدسها في السيارات.

ظلت مسبحة أمي الإلكترونية تعمل طوال المشوار للمحطة الأخيرة في الرحلة فتهمس بتسبيحاتها لروحها الطاهرة ونحن نصوِّر، فتعلو أصواتنا أحيانًا كلما شاهدنا طعسًا رمليًا كبيرًا أو شجرة وحيدة في هذه الفضاء الواسع، وقبل أن نصل للواحة، فقدت أمي، ومعها فقدت كل شيء جميل، فعلمت من يومها أنَّ غرق الصحراء أشد إيلامًا من غرق البحر. رحم الله أمي.